أزمة الصحافة الحزبية في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قاد مصطفى كامل مراد، زعيم ومؤسس حزب الأحرار، الدعوة لتقوم أحزاب المعارضة بشراء مطبعة وشركة توزيع مستقلة بالتضامن فيما بينها، لطبع وتوزيع صحف المعارضة ومطبوعاتها، وتنفق من أرباحها كمشروع تجاري، يسمح به قانون الأحزاب، على أنشطتها الحزبية، لكي لا ترهن مصائرها بغيرها، بعد تكرار المضايقات والمصادرات التي كانت تطول تلك الصحف، والقيود والشروط التي كانت تفرضها مطابع وشركات توزيع الصحف الحكومية التي كانت ولا تزال تحتكر طبعها وتوزيعها، فضلاً عن أعباء وتكاليف إصدارها. وفي حديث معه قال لي مصطفى كامل مراد إن قادة الأحزاب لم يأخذوا الاقتراح آنذاك على محمل الجد واستهانوا به، وسوف يدركون مدى خطأ ذلك، ولكن بعد فوات الأوان.

وتحققت نبوءة مصطفى كامل مراد، رحمه الله، فأزمة الأحزاب والصحافة الحزبية قد تجاوزت الإدراك بهذا الخطأ البالغ منذ زمن، وفاقت كونه خطأ، إلى الخطيئة التي تنطوي على قصر نظر وضيق أفق وانعدام للرؤية، وتغليب المنافسة والمنافع الشخصية التافهة، على المصلحة العامة، وليست الأزمة الخانقة التي تعيشها الصحف الحزبية الآن سوى دليل واحد من أدلة كثيرة على صحة ذلك.

والأزمة التي تمر بها صحف المعارضة لا تنفرد بها، بل إن الصحافة الرسمية بمجملها، التي تملكها الدولة، وتنفق عليها، ترفل في محيط من المشكلات والأزمات والديون الطائلة، وحتى الصحف الخاصة التي يقف وراء تمويلها رجال أعمال قادرون على الإنفاق عليها بسخاء، تعاني بدورها من مشكلات جمة، قد تنتهي باختفاء عدد ملحوظ منها، لكن الأزمة في الصحافة الحزبية أكثر سوءاً وأشد تفاقماً.

ويكمن جوهر مشكلات الصحافة والإعلام الآن في تدهور الموارد الإعلانية التي كانت تعتمد عليها الصحف في تمويلها، نتيجة الأزمة الاقتصادية الراهنة وارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، وانصراف قطاع كبير من القراء عن مطالعة النسخ الورقية من الصحيفة، لارتفاع تكاليف المعيشة، بما يدفعهم للاستغناء عن بعض ما يستهلكونه، اكتفاءً بما تقدمه لهم وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الركود العام الذي تشهده الحياة السياسية.

ووسط هذا المناخ في الصحافة المصرية، تبدو الصحف الحزبية هي الأكثر تضرراً، والأكثر تحملاً لتكلفة هذه الأزمة، التي وصلت إلى الحد الذي لم يعد يبقي من بينها سوى صحيفتين فقط. ولا يستطع سوى مغرض أن ينكر الدور المهم الذي لعبته الصحافة الحزبية في توسيع نطاق حريات الرأي والتعبير في المجتمع المصري.

وتمكنت تلك الصحف من الإسهام في تشكيل جيل جديد من الكتاب والصحفيين، ورسخت قيم صحافة الرأي الحر، ذات الرسالة التي تتصدى للفساد والاستبداد، وبشرت بدعوات التغيير والإصلاح الديمقراطي والدستوري والاقتصادي، وبسبب هذا الدور تمكنت صحف المعارضة من أن تستقطب نسبة من القراء ومن المعلنين، وفرت لها موارد، كانت تكفي في ظل الظروف الاقتصادية التي كانت قائمة قبل سنوات، من الاستمرار والقدرة على المنافسة..

وأدى الانخفاض المستمر في سعر الجنيه إلى تزايد مستمر في مستلزمات طباعة الصحف، إضافة إلى انكماش سوق الإعلانات، وتراجع مستوى معيشة الطبقة الوسطى، التي كانت تعتمد عليها تلك الصحف في توزيعها، فضلاً عن تراجع قيمة القراء كونها قيمة مهمة لترقية السلوك الإنساني في مجتمعاتنا.

وقد تكون ظاهرة الصحف الحزبية آخذة في الانكماش في العالم، إلا أن الأوضاع في مصر ما زالت تتطلب وجودها، ووفقاً لنصوص الدستور، فالأحزاب هي جزء من النظام السياسي للدولة، وللمؤسسات الصحفية القومية، التي تتولى طباعة تلك الصحف.

وباتت تتعجل سداد هذه الديون، وتهدد بوقف طبعها، وتلك مسألة لا تعني فقط الأحزاب وصحفها والعاملين بها، بل يفترض أن تكون كذلك للمعنيين بتطبيق بنود الدستور ودعم النظام السياسي المصري لفكرة الحزبية والتعددية.

رحم الله مصطفى كامل مراد رحمة واسعة، وسامح الله كل من لم ينصت لنصائحه واستهان بحكمته.

 

 

Email