لا حلّ مع الصهيونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقال: إن الفضل ما شهدت به الأعداء، وفي إسرائيل من يغردون بشأن القضية الفلسطينية خارج السرب وينطبق عليهم هذا القول. نتكلم هنا عن دائرة ضيقة جداً من الأشخاص الذين يتبنون أفكاراً، ويتخذون مواقف مغايرة للسائد؛ ويتحركون بشكل منفرد.

جدعون ليفي، الصحافي المتحدر من مستوطنين قدامى ينتمون إلى تشيكوسلوفاكيا السابقة، يعد واحداً من هؤلاء، هو من المثقفين المحسوبين، جدلاً، على اليساريين واليسار الخالي من دسم الفكر الصهيوني القح.

ليفي، ابن الخامسة والستين الآن، دأب منذ أكثر من ثلاثين عاماً علي انتقاد العصيان الحقوقي والانهيار الأخلاقي لإسرائيل، وهو يعتبر الاستيطان وبناء المستوطنات سرقة لأراضي الفلسطينيين المحتلة منذ 1967، واصفاً إياه بـ «العمل الأكثر إجرامية في تاريخ الدولة؛ الذي ينهض على شعائر مؤسساتية، تسهر عليها الحكومات المتوالية، وليس شأناً شارداً يضطلع به أفراد أو جماعات من المهووسين».

عبر المنابر الصحافية والثقافية، التي تسمح له بالإطلال على الرأي العام، ينادي ليفي بتصفية الاستيطان وإعادة الأراضي المنهوبة لأصحابها الشرعيين، ويرى أنه ما لم تحدث تسوية الدولتين، فسوف تظل إسرائيل دولة عنيفة وخطرة؛ تعيش بمعزل عن الصواب القانوني الذي تجسده القرارات الأممية.

أكثر ما يعنينا في هذا الصوت الإسرائيلي المختلف، أنه وضع يده مؤخراً على بعض أهم خصائص الصهيونية؛ التي من شأنها إفشال أي حل للمعضلة الفلسطينية. يقول ليفي ( هآرتس 8/‏7/‏2018 )، إن الصهيونية كانت ولا تزال حركة قاسية ومصابة بالعنصرية؛ تقوم بالتمييز والاضطهاد، ولا يمكن للدولة التي تتمسك بها أن تكون دولة عادلة، لأنها ترى أن كل شيء في إسرائيل، كالأراضي وحركة الهجرة وحقوق الفلسطينيين، هو لليهود فقط، وأن ذلك يمثل تجسيداً لوعد إلهي، ولا يمكن أن تكون صهيونياً من دون أن تؤمن بكل ذلك.

لا يختلف هذا التصور مع الاعتقاد شبه الفطري لدينا بأن الصهيونية والديمقراطية ضدان لا يلتقيان، وأن البناء النظري للصهيونية وتجلياته العملية، ينتميان جوهرياً إلى الأيديولوجيات الكليانية الشمولية كالشيوعية والدكتاتوريات الفاشستية.

ونزيد من الشعر بيتاً بأن الصهيونية تتفوق على هذه النماذج من حيث الجمود والدوغمائية، بالنظر إلى اتكائها على البعد الديني، الذي يشير إليه ليفي بالوعد الإلهي. الصهيونية، بهذه الطاقة المستوحاة والمستمدة من الدين، تضطلع بوظيفة تخرج عن طاقة البشر والحال كذلك، لا مجال ولا أرضية ممكنة، لالتقاء إسرائيل مع القوانين والشرائع الأرضية، كتلك التي تعنيها قرارات الأمم المتحدة، فهذه جميعها يمكن استخدامها مسوغات لبلوغ الغايات الصهيونية لا أكثر.

هذه المقاربة تفسر الرفض الإسرائيلي للموقف الحقوقي الدولي من قضية التوسّع الاستيطاني، وتفسر بحيثية أكثر اتساعاً وعمقاً السلوك الصهيوني والإسرائيلي؛ الذي يمنح أولوية مطلقة للقوانين الذاتية على القوانين والقرارات الدولية، ويتخذ من التشريعات الكنيست والمحاكم الإسرائيلية مرجعية له، وذلك معاكس تماماً للسائد والمقنن دولياً. وبالمناسبة، لم يمر سوى أقل من أسبوعين على مداخلة ليفي، حتى شرعن الكنيست الإسرائيلي مفهومه العنصري للدولة، معلناً بلا خجل عن كونها لليهود فقط، بما يعني أننا أمام نموذج للأبارتيد؛ إلى تصور العالم أنه اختفي مع زوال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قبل عشرين عاماً.

مؤدى هذا كله أن أصواتاً ورؤى ومواقف، كالتي ينادي بها جدعون ليفي ومن لف لفه، ليست سوى نداءات تصدح في برية تسيطر عليها المؤسسة الصهيونية وأتباعها. وإذا ما قيل إن الصهيونية والصهاينة ملة واحدة وإنها يمين بلا يسار، كان ذلك صحيحاً إلى أبعد الحدود.

هذه الخصائص الشوفينية وتوابعها تضفي تعقيدات كبيرة وظلال كئيبة على مشهد التسوية الفلسطينية، إذ كيف السبيل إلى كلمة سواء، مع من لا يوقنون أصلاً بمفاهيم الاستقامة والسواء، ويعتقدون أن لهم ميثاقاً غليظاً مع السماء؟! والأهم، أنهم يجدون الدعم والإسناد من قوى جبارة وظاهرة في السياق الدولي؛ تؤمن بما يؤمنون به، بغض النظر عن صحته ومدى عقلانيته ومنطقيته.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email