بساتين ثورة يوليو الزاهرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحتفظ في أوراقي برسالة تلقيتها منذ عقود من الرئيس جمال عبد الناصر، رداً على رسالتي له لتهنئته بعيد ميلاده. الرسالة تبدأ بكلمة «الابنة الحبيبة فلانة»، ما أن تلقيتها حتى حملتها معي بفرح وفخر في اليوم التالي إلى المدرسة، لكي أتباهى بها وسط زميلاتي: عبد الناصر قال لي ابنتي الحبيبة، عبد الناصر تمنى لي النجاح والتفوق، لكن رحلة الزهو والفرح الغامر انتهت نهاية حزينة.

أمسك أحد المدرسين الخطاب في يده بغطرسة مفرطة، وراح يقلبه بين يديه بطريقة تستهدف التشكيك في صحته، ثم قال لي باستخفاف بالغ: أنت فاكرة عبد الناصر فاضيلك، اللي كتب الرسالة دي السكرتارية اللي بتشتغل في مكتبه، والأغلب أنه لم يقرأ رسالتك أصلاً! عدت إلى المنزل باكية مقهورة، من الطعنة الغادرة التي سددها المدرس نحوي، لتغتال فرحتي الطفولية، وحين أخذت أروي ما جرى لي، طيب أبي خاطري بقوله، إن السكرتارية في مكتب الرئيس لا تعمل سوى بتعليماته، ولابد أن الرئيس ناصر هو من أوصاهم بالرد على رسالتك بعد أن قرأها.

كان الزمن، زمن الأحلام الكبرى، والتحديات الكبرى. زمن ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار والاستغلال، وباتت فيه الكرامة العربية مرادفاً لاستقامة الحياة وعدلها. زمن أجلت فيه ثورة عبد الناصر الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدر بلادي أكثر من سبعين عاماً ليبقيها دولة زراعية متخلفة تعاني الفقر والمرض والجهل.

"زمن قلنا حنبني وأدي أحنا بنينا السد العالي"، لتغدو معركة بناء السد رمزاً لاستقلال الإرادة الوطنية، وهزيمة القوى الاستعمارية، وعدوانها الثلاثي، الذي فشل في إعادة احتلال قناة السويس بعد تأميمها فتصبح تلك المعركة، نموذجاً تقتدي به دول العالم الثالث لتحرير أوطانها، وفرض إرادتها المستقلة عبر بناء اقتصادها المستقل، واستعادة حقوق شعوبها المنهوبة، وجذب الأحلام المحلقة في عنان السماء، وتشيدها على أرض الواقع. زمن الشوق إلى بناء تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا، في كل قرية عربية.

لم أعد مدينة لجمال عبد الناصر فقط بالفرحة التي أضفاها خطابه على طفولتي، بل أدين له ـ كملايين غيري من النساء ـ بفتح أبواب الأمل دون حدود لسقوفها، أمام المرأة للتعلم والعمل. فشهدت الجامعات المصرية تدفق مئات الآلاف من الفتيات إلى مختلف الكليات والتخصصات، وخاضت المرأة ميادين عمل لم تكن مألوفة لها من قبل، ليصبح 47% من علماء مصر الآن من النساء طبقاً لإحصاءات رسمية ودخلت المرأة منتخبة للمرة الأولى إلى البرلمان، وتقلدت موقعها كوزيرة.

وتصدى عبد الناصر بشجاعة معهودة للتيارات المتاجرة بالدين، التي تتخذ من المرأة ميداناً أثيراً لمعاركها وعدوانها والتي سبق لممثليها في جماعة الإخوان محاولة اغتياله.

وحين طالبه واحد من هؤلاء في مؤتمر علني بمنع المرأة من العمل «حفاظاً على الأخلاق» وفرض غطاء الرأس عليها، رد عبد الناصر عليه مذكراً إياه بأن بناته هو نفسه تعملن طبيبات، وأنه لم يستطع كوالد أن يرغمهن على ارتداء غطاء للرأس، فكيف يطالبه أن يفعل ذلك مع ملايين النساء، وأضاف عبد الناصر أن عمل المرأة يحفظ لها كرامتها، ويصون أخلاقها في مواجهة الاحتياج والفقر.

كلما هل شهر يوليو، ينطلق في الأجواء السؤال العدمي عما الذي بقي من ثورة يوليو؟ بقي منها كل ما سبق. بقي منها أنه لا حياة لعالم الصغار سوى بالاعتماد على النفس، بقي منها أنه لا استقرار دون رضا الناس وتلبية احتياجاتهم المشروعة، بقي منها أن الشعور بالحرية والكرامة الإنسانية هو صنو للقمة الخبز لا غنى عنه.

بقي منها قول أبو فراس: سيذكرني قومي إذا جد جدهم، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية

Email