ميلاد صعب لنظام دولي جديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل رحلته المهمة إلى أوروبا ثم زيارته لإنجلترا، وبعدهما قمة هلسنكي مع الرئيس الروسي بوتين.. قال الرئيس الأميركي ترامب إن الجزء الأسهل في رحلته هو لقاؤه مع بوتين!!

قبل سنوات قليلة لم يكن ممكناً تصور ذلك، أن كانت قمة زعماء حلف «الناتو» تبدو كاجتماع عائلي لدول الغرب بزعامة أميركا، وكانت بريطانيا هي الحليف الدائم والأقرب لأية إدارة أميركية ولعلنا نذكر كيف ذهب «بلير» مع «بوش الابن» إلى غزو العراق، رغم معارضة العالم وانقسام الشعب البريطاني نفسه.

ولعلنا نذكر أيضا كيف كانت العلاقات مع موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وبعده، ثم كيف جاء بوتين ليوقف انهيار روسيا، ويستعيد الدولة، ويسعى لعودة مكانتها ونفوذها في العالم.. مصطدماً مع الكثيرين وفي المقدمة حلف «الناتو» بقيادته الأميركية- الأوروبية.

الآن تتغير الصورة تماماً. رأينا كيف كان الاجتماع الأخير لزعماء حلف «الناتو» تجسيداً لخلافات عميقة بين ترامب والشركاء الأوروبيين، ورأينا كيف ذهب إلى إنجلترا المنقسمة على نفسها ليزيد الانقسام اشتعالاً، وليواجه بتظاهرات رافضة لسياساته ومنددة بتدخله في الشأن الداخلي لانجلترا.

كعادته.. يبدو ترامب حريصاً على إعلان وجود الخلافات، ويركز على أن السبب هو الأوضاع غير العادلة التي تحمل أميركا معظم نفقات الدفاع عن الغرب، «وكذلك نتائج اتفاقيات التجارة الحرة» مخاطباً بذلك في المقام الأول مؤيديه من الناخبين الأميركيين الذين يتحملون وفقاً لرأيه تبعات تلك السياسات الخاطئة وتكاليفها الباهظة.

نحن أمام توجه يميني ويرى أن حلم الانفراد بحكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم يعد قائماً، وأن تصور أن «تحرير التجارة» يضمن تفوق أميركا وحلفائها للأبد لم يكن إلا سذاجة استفادت منها الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة، كما استفادت منها دول أوروبا على حساب أميركا.

كل هذا بالطبع قد يكون مردوداً عليه، لكن ذلك لا يغير من الأمر شيئاً عند هذا التيار الذي يتصور أنه الوحيد القادر على تحقيق مصلحة أميركا. والذي يرى أن معركته الأساسية هي مع الصين، ويرى أن التأخر في المواجهة سيمكن المنافس الصيني من مضاعفة قوته الاقتصادية.. ثم الأهم أنه سيمكنه من ترجمة هذه القوى إلى نفوذ سياسي في أنحاء العالم، وإلى قوة عسكرية كان حريصاً في السنوات السابقة ألا يضاعفها حتى يطمئن المنافسين، لكنه الآن يعمل بكل جهد لاستكمال بنائها بسرعة.

الآن يختلف الوضع. تدخل واشنطن في صراع مكشوف مع أقرب الحلفاء. وإذا كان الخلاف مع جارات أميركا مثل كندا والمكسيك يدور حول التجارة والهجرة. فإن الأمر يتعدى ذلك مع الحليف الأقوى والأهم في أوروبا، حيث يقف ترامب بوضوح ضد بقاء الاتحاد الأوروبي، ويقف هو وأكبر أنصاره مع الحركات القومية اليمينية التي تريد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

وفي المقابل.. يرى ترامب والتيار اليميني القومي الذي يؤيده أن روسيا بعد أن استعادت استقرارها ودورها يمكن أن تكون عامل حسم في الصراع الحتمي مع الصين. وكما أن التحالف بين موسكو وبكين يمكن أن يخلق تحدياً هائلاً أمام أميركا، فإن محوراً بين أميركا وروسيا يمكن عند هذا التيار أن يوقف الزحف الصيني ويحقق تفوقاً استراتيجياً على أي محور آسيوي تقوده الصين. ومن هنا حرص الرئيس الأميركي على عقد القمة مع بوتين، رغم الوضع الشائك بالنسبة له سواء من ناحية التحقيقات التي تدور حول التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية، أو بالخلافات العلنية مع حلفائه في «الناتو» الذين مازالوا يقيمون استراتيجيتهم على مواجهة الخطر القادم من موسكو!!

المسؤولون في أوروبا ردوا على ترامب بأن عليه أن يحافظ على حلفائه، والخبراء في واشنطن لا يوافقون على ترك أوروبا وسط متاعب جمة، ويحذرون من أن ما يفعله ترامب هو أنه سيقف مع موسكو في دعم وتشجيع التيارات اليمينية المتطرفة التي يزداد نفوذها في فرنسا وألمانيا، وكادت تحكم النمسا ويتضاعف وجودها في دول شرق أوروبا سابقاً.. والنتيجة عند هؤلاء الخبراء هي تزايد خطر النزعات القوية الشوفينية في بلاد مازالت تذكر مآسي النازية والفاشية!

وتبقى الحقيقة الأساسية.. نحن أمام نظام دولي تنتهي مبررات استمراره، ونظام آخر يولد وسط أوضاع دولية في منتهى التعقيد.

بالتأكيد ستبقى منطقتنا كما كانت على الدوام في قلب هذا الصراع.

مهمتنا صعبة للغاية وعلينا ألا نتأخر فيها، لابد من مضاعفة الجهد على كل الأصعدة لحسم الصراعات والقضاء على المخاطر التي تستنزف جزءاً كبيراً من جهدنا. ووسط هذا كله لابد من العمل على امتلاك رؤية واضحة للتعامل مع السيناريوهات المختلفة التي يجري إعدادها لمستقبل المنطقة ربما كان أفضل ما فعلناه رغم كل المخاطر أننا أدركنا أنه لا حماية لنا إلا بقوتنا الذاتية، ولا طريق لنا إلا ما يحقق مصلحة شعوبنا.

* كاتب مصري

Email