جمهورية ما وراء التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في شتاء عام 2013 كان لي شرف اللقاء بالسيد إداورد مالوكا مستشار وزارة الخارجية في جنوب أفريقيا الذي ما إن عرفته بنفسي وأطلعته على سبب وجودي في أفريقيا كباحثة إماراتية في الشأن الأفريقي حتى ابتسم مُندهشاً راضياً فانتهزت تلك الفرصة التي قد لا تتكرر لي فسألته: سيدي الكريم في ثلاثينيات القرن الماضي كانت المكسيك مملكة يحكمها الملك إداورد فرجاس وكانت غارقة في حرب أهلية مما دفع وجهاء المملكة لسؤال ملكهم عن سبب مشكلة المكسيك؟ فأجابهم الملك مشكلة المكسيك الأساسية هي قربها بحدودها مع الولايات المتحدة الأميركية وبُعدها بروحها عن الله، واليوم أنا أسألك يا سيد مالوكا ما مشكلة أفريقيا الأساسية؟ فكانت إجابته: مشكلة أفريقيا الأساسية أنها لم تتخلص من الاستعمار.

لم أكن أدرك حينها حقيقة ما قاله لي السيد مالوكا إلا بعد زيارتي أفريقيا الوسطى أو المنطقة اللاتاريخية كما تسميها النخبة الأفريقية، تلك الدولة التي قال عنها روبرت كورنفان مؤرخ أفريقيا بأنها منطقة آتية من وراء التاريخ بسبب صعوبة معرفة التاريخ القديم والحقيقي لوجودها واحتضانها لأقدم القبائل الأفريقية كالجبايا والماندجية في العصر الباليوثي الحجري.

بعد هدوء نسبي خيم على العاصمة بانغي جراء التوترات العرقية بين الميليشيات المتناحرة أخذتني قدماي إلى أفريقيا الوسطى فوجدتها قد عُريت من لباسها التقليدي الذي يتسم بالتسامح وأُلبست عمداً ثوباً دينياً لتغطية حقيقة الصراع الذي يدار فيها، وما إن تجولت في قراها واستمتعت بغاباتها الكثيفة التي تكثر في المناطق الجنوبية للبلاد حتى بدأت أقرأ ملامح سكانها البُسطاء كثيري العمل قليلي الحديث، وتوالت على مسامعي أحاديثهم المُقتضبة الجميلة والعميقة الآتية من عبق التاريخ، لأدرك بعدها أن هذا الشعب بجميع طوائفه شعب موغل في العراقة وموسوم بالحضارة ومجبول بالكرامة التي نازعتهم عليها القوى الاستعمارية وما زالت لإجبارهم على نسيانها فنسوا أنفسهم وبلادهم ولم ينسوها.

بدأت تتبلور مشكلة الصراع في أفريقيا الوسطى عندما أدرك الرئيس الأسبق فرانسوا بوزيزي بأن وصوله إلى السلطة لن يتحقق إلا عن طريق استخدامه الجنود المسلمين وذلك بالتعهد بتسوية أوضاعهم خاصة أنهم كانوا يتعرضون للاضطهاد في فترة حكم الرئيس إنج باسيه، ولكن سرعان ما تنصل فرانسوا من وعوده مما جعلهم يتجمعون في تحالف أطلق عليه السليكا، جاءت تلك الأحداث متوازية مع إعلان الشركة الفرنسية أريفا العاملة في افريقيا الوسطى أن البورصة العالمية لليورانيوم انخفضت وبالتالي ستقوم باريس بتجميد العمل في مناجم اليورانيوم حتى عام 2032 للحفاظ على الأسعار والتحكم في السوق الدولي، وهذا ما دفع الرئيس فرانسو للتعاقد مع شركات أجنبية، فكان ذلك مؤشراً اعتبرته باريس تهديداً لوجودها فما كان منها إلا دعم تنظيم السليكا والإطاحة بالرئيس فرانسو بوزيزي ولكن سرعان ما أدركت السليكا أن باريس استخدمتهم لدور محدد هو إسقاط بوزيزي فقط وتعمل الآن على التخلص منهم بعد قيامها بتسليح تنظيم الأنتي بالاكا المسيحي، وهنا بدأت آلة الإعلام الفرنسي تعمل على تصوير مغالطة صدقها العالم مفادها أن السليكا المسلمين يمارسون الإرهاب ضد الأنتي بالاكا المسيحيين.

والحقيقة أن باريس قامت بنزع أسلحة السليكا والتعاون مع الأنتي بالاكا في إبادة المسلمين الذين أصبحوا فريسة سهلة بعد نزع أسلحتهم، ومن الجدير بالذكر أن الأنتي بالاكا تم تأسيسها قبل نشأة السليكا بوقت طويل مما يدحض الحجة الفرنسية التي كانت تروج أن الأنتي بالاكا نشأت للدفاع عن نفسها ضد الإرهاب كما أن جماعة السليكا تضم في صفوفها عناصر مسيحية خلافاً لما كان يتم ترويجه بأنها جماعه إسلامية خالصة، والغريب أن الصحف الفرنسية كانت تخرج بإحصائيات تؤكد فيها نسبة المسلمين ونسبة المسيحيين، ولكن الحقيقة التي عرفتها في وقت لاحق ويعرفها كل مواطن في أفريقيا الوسطى أنه لم تجر أية عملية إحصائية للسكان في بلادهم منذ أكثر من عشرين عاماً، ومن ناحية أخرى إنني عندما كنت في أفريقيا الوسطى كان الإعلام الفرنسي يؤكد أن ميليشيات السليكا قد سيطرت على مناجم الماس وتقوم باستغلاله لصالحها، ولكن الدليل الأفريقي الذي كان يرافقني أكد لي أنه لو كانت السليكا تُسيطرعلى قطاع المناجم لما استطعنا اليوم الوصول إلى منطقتي بونغو وموكا اللتين تتواجد فيهما كمية ضخمة من الحجر الرملي الذي يُعتبر خزاناً لجميع الماس أفريقيا الوسطى.

تركت أفريقيا الوسطى وهي في وضع إخلائها من المسلمين بطريقة ممنهجة وفي ظل تجدد الصراع هناك قد نشهد قريباً انفصالاً في جمهورية ما وراء التاريخ وولادة جمهورية شمالية مسلمة وجمهورية جنوبية مسيحية فكل السيناريوهات مطروحة في تلك القارة المحظوظة قدراً والمظلومة اقتداراً.

* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

Email