حديث الصفقة وخبرة الاتفاقات الإذعانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من ثنايا التصريحات والتلميحات والتسريبات المنسوبة للبيت الأبيض الأميركي، نفهم أن محتويات ما يسمى بصفقة القرن، المبنية حتى اللحظة للمجهول والغامض وغير المحدد، ليست مطروحة للنقاش أو للمراجعة من الجانب الفلسطيني. ومما يتردد أن الرئيس دونالد ترامب سيقول للفلسطينيين بعد صياغتها «هذه هي خطتي اقبلوها أو ارفضوها كما هي».

ما معنى هذا الاستعلاء والتبجح؟ هل سيحرك ترامب ومواليه جيوشهم لفرض الخطة على الأرض؟ وحتى إذا افترضنا ذلك جدلاً، من يضمن تطبيقها على من لا ينسجمون معها وينصاعون لها؟ ومنذ متى صمدت التسويات والحلول المملاة وتمكنت من تحقيق السلام والاستقرار؟ ترى، هل نسيت واشنطن وتل أبيب، ما جرى غداة إكراه المنهزمين في الحرب العالمية الأولى، على القبول بما أملي عليهم من خرائط جغرافية وقيود اقتصادية وسياسية؟ هذا مع العلم بأن القياس هنا مع الفارق، لأن الفلسطينيين ومؤيديهم لم يرفعوا الراية البيضاء، ولا يبدو أنهم في وارد الاستسلام في أجل قريب أو بعيد.

تقول السوابق والخبرات إن كل الموادعات والاتفاقات والتعاقدات لا تستعصي على التقادم والهجران وإعادة النظر، تبعاً لمرور الزمن وما يستجد فيه من متغيرات وتحولات في موازين القوى والمحددات. وتصدق هذه القناعة أكثر فأكثر على الاتفاقات الإذعانية، التي ربما يذهب ريحها قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به. ولو كانت أدوات القوة وعمليات لي الأعناق والأذرع، كفيلة وحدها بتمرير الحلول السياسية، لكسرت إسرائيل ومحازبوها في عالم الغرب إرادة الفلسطينيين منذ أمد بعيد.

لا يصح عموماً مطالبة طرف ما بما يملى عليه، إلا إن جرى ذلك في سياق تنفيذ القوانين الدولية وقرارات التنظيمات الساهرة عليها. وفي تقديرنا أن هذا هو الطريق الآمن، الذي يسمح للولايات المتحدة بأن تسوق الفلسطينيين من خلاله سوقاً إلى دائرة الإذعان والقبول. ولعل تعثر «صفقة أوسلو» الشهيرة وتوابعها على هوانها، ناجم عن إهمال هذا الطريق والاستماتة في تجاوزه وانتهاك حرمته.

الأقرب للصواب والعقلانية واستلهام دروس الماضيين القريب والبعيد، أن نصدق الطرف الفلسطيني عندما يتوقع فشل أية خطة للتسوية لا تضمن الحد الأدنى من حقوقه.

جاريد كوشنر، مستشار ترامب وصهره وأحد أهم عرابي الصفقة العتيدة، يشكك في قدرة الفلسطينيين على التصدي لها ويذهب إلى أن «المجتمع العالمي يشعر بالإحباط من القيادة الفلسطينية، التي تلقي بكثير من الإدانات، ولا تقوم بأعمال بناءة لتحقيق السلام» على من يقرأ هذا السياسي اليافع مزاميره؟.. إنه وإدارته يعترفون بالقدس على بعضها عاصمة لإسرائيل وينقلون سفارتهم إليها، رغماً عن موقف الخلق أجمعين والميراث التاريخي والثقافي والديني الروحي والحقوقي للمدينة، وفي الوقت ذاته يريدون من الفلسطينيين ألا يتوقعوا الأسوأ أو تكون لهم ردود أفعال غاضبة وإدانات حادة.

زيادة على هذا والاستقواء المغلف بمظاهر الطهرية والبراءة، تدعي إدارة ترامب أن الفلسطينيين لديهم نقاط حوار لم تتغير على مدار ربع قرن بطوله، الأمر الذي حال دون التوصل إلى السلام. المفارقة هنا أن هذه الإدارة لم تتساءل من جانب آخر، عما أن كان الإسرائيليون قد غيروا أقوالهم خلال الفترة ذاتها. ولو كانت لدى واشنطن نية الالتزام بأصول الوساطة المتوازنة، لاحتكمت في هذين الموقفين المتصلبين فرضاً وفصلت فيهما، وفقاً لمواثيق الشرعية الدولية ذات الصلة كحد أقصى، أو لعملت في الحد الأدنى وأضعف الإيمان على تطبيق مرجعية أوسلو وتوابعها.

يؤكد الشاب كوشنر أن «القادة العرب يودون رؤية دولة فلسطينية عاصمتها القدس، واتفاقاً يمكن شعبها من العيش بسلام، وأن تتاح له الفرص الاقتصادية ذاتها التي تتمتع بها شعوب بلدانهم» حسناً، إن كان هذا هو رأي العرب، المتوافق مع الموقف الفلسطيني، فكيف سيتم تمرير الصفقة؟!. من هي القوى الجهنمية التي ستجبر الجميع على السمع والطاعة، وما الكيفية التي سيتم بها هذا الإجبار؟ اللهم إلا إذا كان كوشنر ورهطه يخفون بعض الحقائق ويموهون على الرأي العام، بما يوحي بأن المؤثرين العرب سيستقبلون الصفقة لحظة إعلانها بقبول حسن. والحق أن هذا التصور يبدو للآن مثيراً للفتن لكنه مفارق للواقع.

كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email