مصر والجغرافيا الاقتصادية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«ستيفن جوبز» ذكر في محاضرته الشهيرة منذ أعوام في جامعة ستانفورد أن بدايته كانت في مادة علم «الخطوط» التي لم تكن في جوهرها أكثر من التدريب على ربط النقاط ببعضها، ومنها ولدت شركة «آبل» للكمبيوتر الذي لم يكن يزيد على شاشة تتجمع عليها ملايين النقاط فتكون حروفاً وصوراً. بالطبع فإن المسألة التي تبدو بهذه البساطة هي في واقعها بالغة التعقيد، ولكنها على أية حال تشكل نقطة الانطلاق الأولى.

ما يهمنا هنا مصر، وخلال الأيام الماضية تجمعت أخبار وأنباء عن أحداث كلها تشكل نقاطاً؛ والنقاط تشكل صورة لابد من استيعابها عن الدولة ومستقبلها، وهي في كلمة واحدة «الطاقة»، أياً كان نوعها ومصدرها وسبل استخدامها.

وأول الأخبار من حيث الأهمية أن وزير الكهرباء افتتح محطة الطاقة الشمسية في أسوان بقدرة توليد ٥٠ ميجاوات ودخل إنتاجها إلى الشبكة القومية للكهرباء بالفعل. ورغم أن ذلك حلم قديم لاستغلال الطاقة الشمسية في بلد هو أكبر صحن شمسي في العالم، فإن حكمة أنه من الرائع أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي على الإطلاق، تنطبق علينا، مع الفارق أنها تشكل نقطة انطلاق كبيرة على ضوء ما نراه في أخبار أخرى.

فالخبر الثاني ينتمي إلى حزمة أخبار توليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها، فمصر تدخل الآن كنقطة وصل بين أفريقيا وأوروبا للربط الكهربائي بين القارتين من خلال الاتفاق بين مصر من ناحية وكل من قبرص واليونان، وكلاهما عضو في الاتحاد الأوروبي، من ناحية أخرى.

نقطة الانطلاق كانت بتفعيل مذكرة التفاهم بين الطرفين بقدر ٢٠٠٠ ميجاوات واستثمارات مبدئية تبلغ ٤ مليارات دولار لنقل الكهرباء عبر كابل بحري طوله ١٧٠٧ كيلومترات. لاحظ هنا أن مصر تربط نفسها كهربائياً مع المملكة العربية السعودية، ولها سابق ارتباط مع الأردن بما يحمله من إمكانيات الربط بين أفريقيا والمشرق العربي وأوروبا.

الجغرافيا الاقتصادية المصرية تعينها بشدة على القيام بهذا الدور للربط الكهربائي، أي توزيع مخرجات إنتاج الطاقة التي دخلت مرحلة جديدة مع ترسيم الحدود البحرية مع السعودية وقبرص. هنا فإن مدخلات إنتاج الطاقة لا تتمثل فقط فيما أضيف للقدرات المصرية الخالصة في حقول «ظهر» في البحر المتوسط والدلتا في وادي النيل، وإنما بما تضيفه اكتشافات النفط والغاز في منطقة البحر المتوسط كلها.

الخبر الجديد في هذا الشأن أن شركة «شل» العالمية اشترت غازاً من حقل إفروديت القبرصي، وحقل لفياثان، بمقدار ٢٥ مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة بهدف تسييلها في مصنع التسييل الذي تملكه في إدكو المصرية.

وسواء أكان الأمر غازاً أو نفطاً أو كهرباء فإن مصر هي حلقة الوصل والمركز الذي تدور حوله هذه التطورات الاقتصادية، خاصة أن روابطها لا تجري فقط في إطار منطقة شرق البحر المتوسط، وإنما كان سابقاً عليها منطقة البحر الأحمر من خلال قناة السويس وخط السوميد لنقل النفط.

الربط ما بين المحورين والبحرين يعطي لمصر العديد من المزايا التنافسية سواء باستخدام خطوط الأنابيب، أو الممرات البحرية، أو مصانع التسييل، أو موانئ التصدير. وكل ذلك يعطي لمصر فرصاً كبيرة على محاور أولها الرسوم والضرائب الجارية على عمليات النقل والتفريغ.

والثانية التصنيع من خلال مصانع البتروكيماويات والتسييل والصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة مثل الحديد والصلب والأسمدة والأسمنت وما يماثلها، وكلها يمكنها التوسع فيما هو موجود وإضافة ما هو جديد. والثالثة أنها تفتح الأبواب على مصراعيها لتنمية سيناء ليس فقط سياحياً وإنما أيضاً صناعياً وديمغرافياً. والرابعة أن محور قناة السويس للتنمية الجاري العمل فيه سوف يستفيد كثيراً من كل هذه التطورات.

ما يجب ملاحظته في هذا الشأن أن الجغرافيا الاقتصادية لمصر ومنطقة شرق البحر المتوسط وشمال البحر الأحمر لا تقوم فقط على تعاون الدول وهو ما يعطي الفرصة للجغرافيا السياسية لكي تلعب دوراً منشطاً أو معوقاً للحركة الاقتصادية، وإنما أيضاً على حركة الشركات العالمية متعددة الجنسية والمتعددة النشاط الاقتصادي أيضاً. والخلاصة أن مصر الآن تدخل باباً واسعاً ليس فقط كمركز لإنتاج وتوزيع الطاقة، وإنما أيضاً لكل ما يترتب على ذلك من نتائج اقتصادية.

 

كاتب ومحلل سياسي

Email