هل بقي نظام عالمي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في خضم مباريات كأس العالم، يتساءل المراقب هل المونديال هو ما تبقى من مؤسسات النظام العالمي، والذي يبدو أنها تعمل بجدارة في مجال تخصصها. وأن بقية المؤسسات تبدو متعثرة، أو تعمل بكفاءة أقل من المرتجى. وحتى هذه أصبحت في شك بعد ما نضح من فساد في الاتحاد الدولي لكرة القدم أو الفيفا.

والنظام العالمي لا يعني بالضرورة غياب الاختلاف أو الخلاف بين منظومة الدول في العالم. فمنذ نشأة النظام العالمي الحالي منذ الحرب العالمية الثانية اعترى النظام كثير من التصدعات، والكثير من المواجهات بل الحروب، ولكن كان هناك نمط من القواعد يتحكم في السلوك العام بين الدول. وكما يردد أصحاب المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية فإن النظام الدولي يتسم بالفوضى بمعنى أن ليس هناك سلطة مركزية تنظم العلاقات بين الدول. بيد أن هناك تفاعلاً يخلق قواعد تشكل هذا النظام، رغم أن أحياناً ما يجري من كسر للقواعد الضابطة للنظام.

إذاً، ماذا حصل للنظام الدولي؟ لقد كان النظام الدولي قائماً على دعائم عدة أدت إلى استمرارية النظام العالمي. ومن أهم هذه الدعائم كانت الليبرالية العالمية، والتي تتسم بحرية تنقل رأسمال والبضائع، أي حرية حركة الاستثمار العالمي والتجارة الدولية؛ وبدرجة أقل حرية التنقل للعمالة. والمأمول من هذه الليبرالية العالمية أن تتسع رقعة العالم المتصالح والمندمج في سياق الاعتماد المتبادل. وبالتالي فإن هذه الحالة ستخلق عالماً منتظماً بانتظام الأسواق المحلية والدولية ويزيد من انسجام دول المنظومة الدولية.

وعملياً قامت الولايات المتحدة بدور المنظم لهذه العملية عبر ما يسميه منظرو العلاقات الدولية بالهيمنة. فالهيمنة تتلخص بمزيج من الإقناع والإكراه لاصطفاف دول العالم حول هذه المنظومة الدولية. وبسبب أن الولايات المتحدة تتمتع بقوة فائقة فإنها استطاعت أن تلعب هذا الدور. وتستطيع الولايات المتحدة أن تستخدم مصادرها الهائلة لضبط إيقاع النظام الدولي سواء أكان بالتدخل الاقتصادي أم المالي أم العسكري. وقد استطاعت الولايات المتحدة أن تثيب الملتزم بقواعد النظام الدولي التي أرستها، وتعاقب من يخل بهذه القواعد.

وكما أوضح منظر «نهاية التاريخ»، فرانسيس فوكوياما، في مقالة نشرها بعيد انتخاب الرئيس دونالد ترامب، بأن العالم دخل مرحلة جديدة منذ انهيار سور برلين. وتتميز هذه المرحلة بما اسماه فوكوياما بتنافس القوميات الشعبوية، والتي تمثل غالبية ديمقراطية في بعض البلدان الرأسمالية.

وقد نجحت الليبرالية العالمية في أهدافها لسبعة عقود خلت إلى أن ارتطمت بالأزمة المالية في 2008. وفي حينها تكشف أن النظام الاقتصادي الليبرالي لم يوزع محاسنه بشكل متساوٍ على جميع طبقات المجتمعات. وكان هناك تضرر من هذا النظام العالمي بالنسبة لقطاعات كبيرة من المجتمع، والتي أصبحت القاعدة الاجتماعية لهذه الحركات الشعبوية في أميركا وأوروبا معقل الليبرالية العالمية.

وليس أدل من أزمة النظام العالمي مما حصل في الاجتماع الأخير لمجموعة السبعة، والتي تمثل أكبر الاقتصادات الرأسمالية. وقد انفض السامر في كندا بعزلة الولايات المتحدة عن بقية حلفائها الغربيين، واتخاذها مواقف تعبر عن النزعة الشعبوية التي تكتسح بقاع العالم. وقد عبر رئيس مجلس العلاقات الخارجية وأحد أساطين مؤسسة السياسة الخارجية، ريتشارد هاس، في تغريدة عن أن مجموعة السبع قد انفلت عقالها. وقد نعى هاس في مقالة سابقة النظام الليبرالي الدولي بسبب تراجع دور الولايات المتحدة في ضبط النظام العالمي بسبب بروز قطاعات اجتماعية خسرت الكثير من الوظائف والمداخيل بسبب العولمة والتجارة الحرة. وقد استغل كثير من الساسة هذه الحالة من السخط الشعبي لتحويله إلى أصوات بتبنيهم أيديولوجية قومية شعبوية.

وفي كتابه الأخير، «عالم مبعثر»، يرى هاس أن كثيراً من المشكلات التي ظهرت تعود إلى تراجع الدور الأميركي، والذي كان يلعب مركز الهيمنة في النظام الدولي والضابط الرئيس لإيقاع هذا النظام. والحقيقة أن هذا يطرح سؤالاً مهماً، وهو لماذا تراجع الدور الأميركي؟ ولماذا الآن بالذات؟

رغم أنه من الصحيح القول إن النظام العالمي الذي توج منذ الحرب العالمية الثانية والرؤية الليبرالية الدولية خلقت سلماً دولياً بين القوى العظمى، ومنعت وقوع حرب عالمية بينها، كما أنه من الصحيح القول إن هذه الرؤية القائمة على حرية حركة رأس المال والتجارة انتشلت الكثير من براثن الفقر في العالم، إلا أن الاستقطاب الدولي بين القوتين العظمتين خلق حروباً بالوكالة. إضافة إلى أن مئات من الملايين من البشر لا يزالون في قعر العالم، ولم يستفيدوا من الرخاء الذي عم الكون.

وقد أدت هذه الأسباب إلى زعزعة الاستقرار في مناطق العالم، وظهور بلدان انهارت فيها سلطة الدولة وبرزت ميليشيات مسلحة كبديل للدول الفاشلة. كما أن سعي الولايات المتحدة للتمدد في أنحاء العالم جعل منها غير مؤثرة في المناطق المهمة استراتيجياً. وأن تورطها في حروب عبثية من فيتنام إلى العراق أفقدها كثيراً من الموارد المادية والمعنوية. وزد على ذلك ازدواجية المعايير، والتي سلبها كثيراً من قوتها الناعمة.

أضحى العالم اليوم دون دفة قابع بين مراسم دفن النظام القديم وبناء نظام جديد يتوخى الحذر من المطبات القديمة. وفي هذه الفترة الانتقالية فإن العالم على حافة خطيرة.

كاتب وأكاديمي

Email