أميركا تنسحب وإسرائيل فوق حقوق الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

انسحبت أميركا من المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وكان المبرر المعلن من جانبها أن المجلس «وهو إحدى المؤسسات التابعة للأمم المتحدة» ينحاز ضد إسرائيل.

بالطبع أبدت دول العالم أسفها للقرار الأميركي، لكن الخطير أن أحداً لم يفاجأ بالقرار الأميركي (!!) ربما لأن التهديد بالانسحاب تكرر كثيراً من المسؤولين الأميركيين، وربما لأن قراراً مماثلاً صدر عن إدارة ترامب في نوفمبر الماضي بالانسحاب من منظمة اليونسكو «المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة» ولنفس الأسباب، ومع الاتهام المعتاد بأن المنظمة التي ترعى الثقافة، وتحاول حماية التراث الإنساني منحازة أيضاً ضد إسرائيل!

عدم المفاجأة من القرار لا يمكن أن يخفي خطورته. والخطورة هنا تأتي من أمرين أساسيين:

** الأمر الأول أن إدارة ترامب تقول بكل وضوح إنها لا تحفل بأن تكون مع إسرائيل فقط في جانب، وأن يكون العالم كله في جانب آخر!! وقد رأينا كيف كان «الفيتو» الأميركي حائلاً أمام أي قرار من مجلس الأمن بإدانة قتل إسرائيل المتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة، أو حتى إرسال بعثة للتحقيق الدولي هناك. وكيف ارتضت أميركا لنفسها أن تطرح مشروع قرار على المجلس، فيحدث لها ما لم يحدث من قبل، حين لا يصوت مع القرار إلا أميركا نفسها!!

وتزداد خطورة هذه الرسالة التي يحملها قرار الانسحاب الأميركي من أنها تأتي في أعقاب القرار الكارثي الذي اتخذته الإدارة الأميركية بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إلى هناك، وهو ما يثير العديد من الأسئلة عن إمكانية أن ترعى واشنطن حلاً عادلاً وشاملاً للقضية الفلسطينية في ظل هذا الانحياز لإسرائيل، والذي وصل لحد أن يكون هو «البوصلة» الوحيدة للمصالح الأميركية كما تراها واشنطن!!

** الأمر الثاني قد يكون أخطر وأوسع تأثيراً على العالم كله.. فالانسحاب الأميركي من مجلس حقوق الإنسان أو من اليونسكو لا يأتي كإجراء انفرادي، وإنما لابد من النظر إليه في السياق العام للسياسة الخارجية الأميركية، فهو لا يأتي في ظل رؤية يمينية تتنامى داخل الولايات المتحدة ترفع شعار أميركا أولاً وتحاول تطبيقه من خلال تصور أن النظام الدولي الحالي لم يعد صالحاً لاستمرار، وأن على أميركا أن تتحرك لكي تغير قواعد اللعبة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، حتى تستطيع أن تحافظ على تفوقها المهدد من القوى العالمية المتصاعدة.

تريد واشنطن أن تتحرك دون أي قيد على حركتها، فالانسحاب من حقوق الإنسان واليونسكو ليس إلا مقدمة من انسحابات أخرى من كل منظمة دولية لا تملك فيها واشنطن حق الفيتو، تتصور رؤية اليمين الأميركي أن سنوات الانتقال التي يعيشها العالم الآن إلى نظام عالمي جديد لابد أن تتخفف فيها أميركا من كل الأعباء ومن أي التزامات تعوق حركتها، وألا تجعل أي شيء يعرقل جهودها لضمان المصالح الأميركية وحدها.

المشكلة لم تعد فقط في المنظمات الدولية التي لم تعد أميركا تتعامل معها بجدية، أو التي تستعد للانسحاب منها. وإنما أيضاً من ضرب التحالفات الأساسية والدخول في صدامات مع أقرب الدول.. بدءاً من كندا والمكسيك، وحتى أوروبا التي تجد أن واشنطن تدخل معها في خلاف تجاري يكاد يتطور إلى حرب اقتصادية تماثل تلك التي بدأت مراحلها الأولى بين أميركا والصين!!

والأخطر بالنسبة لأوروبا أن سياسة اليمين الأميركي الجديد تعادي الوحدة الأوروبية، وتتصور أن التعامل مع دول أوروبا «بعيداً عن اتحادها» يجعلها تسلم قيادتها لواشنطن!! والأكثر خطورة أن اليمين الأميركي يساند جهود اليمين المتطرف في دول أوروبا على أساس أنه ضد الوحدة الأوروبية، متجاهلاً نزعات التطرف والعنصرية والشوفينية التي تصل عند بعض هذا اليمين الأوروبي إلى إحياء الفاشية والنازية من جديد!!

وتتناسى هذه الرؤية أن جزءاً كبيراً من القوة الأميركية اعتمد على النموذج الذي قدمته كمجتمع يقوم على الحرية وحقوق الإنسان، وتتناسى هذه الرؤية اليمينية أن النظام الدولي الذي نشأ على توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تطور مع حركات التحرر العالمي، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي لا يمكن أن يتم إلغاؤه بإرادة منفردة لدولة مهما كانت، وأن النظام العالمي الجديد الذي يولد بصعوبة شديدة لا يمكن أن ينشأ بإرادة دولة واحدة.. فموازين القوى قد اختلفت، وما تفعله هذه السياسات اليمينية هو أنها تطيل فترة الانتقال من عالم القطب الواحد إلى عالم الأقطاب المتعددة.. لكن الانتقال سيتم في النهاية وموازين القوة ستفرض نفسها.

وتبقى المفارقة التي لا يعرف اليمين الأميركي كيف يتعامل معها، فنظام العولمة الذي أشرفت أميركا على قيادته كان يستهدف الحفاظ على مصالح القوى الاقتصادية الكبرى وفي مقدمتها أميركا، الآن تشكو الولايات المتحدة من أن النظام الذي أنشأته لم يعد مفيداً لها، بينما القوى الاقتصادية البازغة وفي مقدمتها الصين هي التي تتمسك بالنظام، لأنه يخدم مصالحها ويؤكد تفوقها.. وبدلاً من البحث الجاد عن إصلاحات تصب في مصلحة الجميع، وفي المقدمة الشعوب الفقيرة التي تم استنزاف ثرواتها في ظل العولمة، كما حدث قبل ذلك في ظل الاستعمار.. بدلاً من ذلك يجد العالم نفسه على أبواب حرب تجارية تقودها الولايات المتحدة بمفهوم «أميركا أولاً»، تصاحبها حرب سياسية تهدد بتقويض النظام الدولي كله تحت زعم أنه ينحاز ضد إسرائيل الوديعة المسالمة، ولا يسمع كلام أميركا التي يرى الرئيس ترامب أنه هو فصل الختام الذي لا ينبغي أن يناقش، بل أن ينفذ فقط.

يعرف العقلاء في أميركا أن هدم النظام العالمي لا يمكن أن يكون في صالح الولايات المتحدة ولا العالم، ويعرف الحريصون على مصلحة الكيان الصهيوني أن ما يهدد هذا الكيان ليس انحياز العالم ضده، ولكن انحياز الإدارة الأميركية له، ويبقى أن يجد العالم الوسيلة المثلى لإغلاق الطريق أمام يمين أميركي لا يزعجه أن يقف وحيداً ومعه الكيان الصهيوني في وجه العالم كله، ولا يتصور حجم الضرر الذي يلحق بأميركا وبالعالم كله، حين تسقط الإدارة الأميركية كل القيم التي قامت عليها، وتنسحب من حقوق الإنسان بعد اليونسكو وتستعد للمزيد من الانسحاب.

 كاتب مصري

Email