كأس العالم والجليد الروسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من حسن الحظ السياسي لروسيا أن تكون هي قبلة العالم في متابعة المونديال الذي تتنافس فيه منتخبات 32 دولة في الفترة من 14 يونيو إلى 15 يوليو 2018، وهي البطولة التي تنظمها للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم بتكلفة رسمية تبلغ 683 مليار روبل (11 مليار دولار). الاستعدادات غير مسبوقة. روسيا حديث الرأي العام العالمي على مختلف الأجيال. أطفال وشباب وشيوخ. لا صوت يعلو فوق صوت المونديال. نعم نجحت روسيا في خطف أنظار الكرة الأرضية.

فمنذ الأيام الأولى حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تأكيد رسائل الترحيب باللاعبين والجماهير، مؤكداً أن روسيا فعلت كل شيء حتى يشعر ضيوفها واللاعبون والخبراء وبالطبع الجماهير أنهم في منزلهم في روسيا، ولم يغفل بوتين الكشف عن آماله بألا تقتصر اللحظات التي لا تنسى على المباريات فقط، بل أن يكون هناك دور لثقافة روسيا وتاريخها وطبيعتها. والتعرف عليها وعلى ثقافتها الأصيلة وتاريخها الفريد وطبيعتها الغنية وعلى شعبها المضياف المخلص المحب للصداقة، مراهناً على أن روسيا ستترك في قلوب الزائرين انطباعات لا تنسى.

وسط هذه الأجواء لم يسلم بوتين من أقلام المنظرين فقد ذهبت التحليلات إلى أن روسيا ستستثمر كأس العالم ورقة مهمة لتبييض وجهها. واحد من هؤلاء المنظرين ديمتري بيكوف الكاتب الروسي الساخر المعروف في صحيفة «سوبسيدنيك» إذ قال «إن بوتين يريد أن يتحدث عنا العالم مثلما كان يتحدث عن فريق هوكي الجليد السوفييتي في السبعينيات. نحن «الآلة الحمراء الكبرى». نحن مهابون. لسنا محبوبين لكننا موضع إعجاب. هو لا يريدنا أن نكون محبوبين. فالحب يختفي أما الخوف فلا يختفي أبداً».

وفيما تمثل كأس العالم في نظر الرئيس الروسي رسالة تحدٍ إلى العالم تتلاءم مع خطابه المفضل أن روسيا تحقق نجاحاً رغم الجهود الغربية للوقوف حجر عثرة في طريقها، يستوقفنا في السياق نفسه البروفيسور سيرجي مدفيديف، من كلية الاقتصاد العليا في موسكو بقوله: «بالنسبة لبوتين استضافة كأس العالم برهان على فشل العقوبات وفشل الجهود الغربية لعزله»، مشيراً إلى العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وإن بوتين رغم كل ذلك فهو يفكر بمنطق «نحن مازلنا نملك القرم ونتابع برنامجنا الخاص ومع ذلك فالكل جاء لكأس العالم». ولا يريد بوتين أن يظن الروس أن بلادهم معزولة، لأن ذلك قد يهدم حديثه عن روسيا كقوة كبرى ذات نفوذ ولها كلمة مسموعة في الشؤون العالمية.

لا شك أن الأمواج متلاحقة وسريعة في صناعة صورة ذهنية جديدة لروسيا من خلال هذا المونديال حتى الروس أنفسهم يعتبرون أن كأس العالم هي أحدث حلقة في سلسلة من الأحداث التي تبين انهيار المحاولات الغربية لعزل روسيا. وبعضهم قال مازحاً «إذا كانت تلك عزلة فنحن نستمتع بها».

حلبة التنظير تتسع حول بوتين الذي استطاع صناعة حالة عالمية أعادت أبناء العقيدة الحمراء إلى بؤرة الاهتمام العالمي لتعيد ترتيب التوازنات على طاولة القوى الدولية، وهنا يتلامس مع هذا الطرح رأي ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية بأنه «كلما اشتدت الحملة المعادية لروسيا قبل كأس العالم سيزداد الاندهاش الحقيقي لدى الناس عندما يرون أنه لا توجد أسلاك شائكة في الملاعب».

ربما ينجح بوتين في تصحيح صورته الشخصية لدى الغرب، لاسيما أن كأس العالم جاء متزامناً مع ألسنة اللهب التي تتطاير في العالم، وربما ينجح سيد الكرملين في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال هذا المونديال. لكن السؤال الضاغط والملح على طاولة مفكري القوى العظمى إلى أي مدى ستشفع كأس العالم لروسيا في حسابات المستقبل؟

Email