التطرف الفكري و«الكسل العقلي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

اتساقاً مع توجهات دولة الإمارات في محاربة الإرهاب والتطرف بكل الأدوات والوسائل الممكنة بما فيها المقاربات الفكرية والإعلامية، جاءت توصيات وزراء إعلام الدول الداعية لمكافحة التطرف والإرهاب خلال اجتماعهم الأخير في أبوظبي، في إطار تنسيق وتكثيف العمل بما يضمن تضافر وتوحيد الجهود الرامية إلى نبذ التطرف والإرهاب في المنطقة وكل أنحاء العالم، وتبادل الأفكار خدمة للرؤية المشتركة لهذه الدول والمتمثلة في مكافحة دعم وتمويل واحتضان الإرهاب وتجفيف منابعه المالية والفكرية، وصولاً إلى اجتثاثه من منطقتنا العربية والعالم.

وتماهياً مع الرؤية الشاملة لمحاربة تلك الظاهرة الكارثية رأى الوزراء والحضور المشاركون في الاجتماع أن التطرف والإرهاب يستندان إلى مرتكزات فكرية ومالية، وأنه من دون العمل على قطع هذين الشريانين ستبقى آليات مكافحة الإرهاب آنية، لا تؤدي إلى القضاء النهائي على هذه الآفة التي باتت تنخر في العديد من المجتمعات بالمنطقة، ومن ثم فلا بد من التصدي الإعلامي والفكري لمحاولات بعض الدول الإقليمية التدخل في شؤون دول المنطقة، خاصة من خلال إقامة محطات إعلامية مسيّسة لتنفيذ أجندات مشبوهة هدفها زعزعة استقرار المنطقة.

كما برزت في هذا السياق الدعوة إلى التركيز على الإعلام الجديد ووسائل وأدوات التواصل الاجتماعي، لكون هذا القطاع الأقرب إلى الجمهور العربي والأكثر تأثيراً في الرأي العام، مع ضرورة وضع الاستراتيجيات الكفيلة بضمان زيادة المحتوى الإيجابي وغرس ثقافة التفاؤل والأمل على هذه المنصات مقابل المحتوى الهدام الداعي إلى التطرف والعنف.

لا شك في أن هذه التوصيات والقرارات تمثل منهجاً متكاملاً لضرب الإرهاب في جذوره عند وضعها موضع التنفيذ العملي، خاصة مع توظيف أدواتها في كشف وفضح الأسس الفكرية الواهية التي يستند إليها المتطرفون في تسويق أعمالهم الإرهابية، ولعل من الضروري في هذا المقام إبراز ظاهرة خطيرة ترتبط بتعطيل العقول البشرية والحد من قدراتها الإبداعية لمصلحة الركون إلى مناهج متطرفة ضيقة تقتل كل ما له علاقة بحرية الفكر.

فبينما تنتهز المجتمعات فرصة المناسبات المتجددة للتأكيد على الوحدة الوطنية وإعلاء قيم المحبة والتسامح والتآخي والتعايش المشترك بين أبناء الديانات المختلفة، إلا أنها تحولت في السنوات الأخيرة مع الأسف الشديد في بعض الدول إلى موسم لإطلاق الآراء الشاذة، ولا نقول «الفتاوى» لأن تلك الأخيرة لها مناهج وأنساق وقواعد تختلف كلياً عن إطلاق الآراء الانطباعية والعشوائية المريضة التي تشيع التوتر والانقسام والكراهية في المجتمعات وبين أبناء الوطن الواحد.

وليس خافياً أن تلك الآراء الشاذة هي في واقع الأمر المظلة الفكرية الأوسع التي يستغلها المتطرفون والمتعاطفون معهم من أصحاب القدرات العقلية المحدودة والوعي المفقود للقيام بعمليات إرهابية تزهق أرواح الأبرياء من المدنيين والأطفال والنساء.

ولا شك في أن الخطوات الكبيرة والجادة التي أقدمت عليها دول عربية عديدة في السنوات القليلة الماضية في سبيل التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة قد حدت كثيراً من تداعياتها وتأثيراتها السلبية، وحالت بالتأكيد دون وصول الممارسات الممقوتة للجماعات المتطرفة لمراحل أكثر خطورة لو ترك الحبل لها على الغارب من دون جهود مؤسسية ومجتمعية لمواجهتها.

مثل هذه التصرفات والخطوات الواضحة وضوح الشمس نظن أنها كفيلة بأن تؤكد لكل المشككين والمرتبكين وحتى المتطرفين أن هناك قناعة متبادلة للرغبة في العيش المشترك ونبذ الكراهية والتحريض على العنف وتبني سياسات تساعد على استقرار المجتمع ودعم التنمية المشتركة نحو وضعية أفضل في كل المجالات، ليس هذا فحسب ولكن مثل هذه الخطوات كان ينبغي أن تدفع هؤلاء المتطرفين لتنشيط عقولهم وفتح قلوبهم نحو فكر مختلف وتفسيرات أخرى أكثر استنارة للعلاقات والتعامل مع أهل الكتاب، بدلاً من تلك القوقعة التي تجمدوا داخلها والدائرة المغلقة عليهم بأفكارها المتشددة والمتطرفة أحادية الجانب التي تنسف كل قيم المحبة والتسامح.

وأغلب الظن أن هذا «الكسل العقلي» من جانب المتشددين والمتطرفين يتحمل مسؤولية كبيرة لاستمرار تلك الظاهرة وتزايدها، فهم يستسهلون كثيراً «حتى ولو رفضوا الاعتراف بذلك» بالدخول في دائرة التحريم والتكفير واتهام الآخرين بالشرك.

ولأن هذه السطور لا تطرح جدلاً فقهياً بقدر ما تقدم بعض الوقائع التاريخية التي تتنافى مع توجهات أصحاب الآراء الشاذة والعقول الكسولة، فإن الهدف النهائي هو التشجيع على مزيد من الخطوات والجهود المجتمعية نحو مزيد من الاستنارة الفكرية والانفتاح لتخليص الأوطان من ثقافة التطرف والتحريض على الكراهية ورفض أصحاب الديانات الأخرى، وكذلك للعمل على تعميق المواطنة مع شركاء الوطن باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع وقوة لا يستهان بها في البناء والتنمية، خاصة وأنهم لا يمثلون أي تهديد لأوطانهم بل قيمة مضافة لها، وتلك رسالة مجتمعية شاملة أصبح الإعلام مطالباً بتبنيها ودعمها بكل قوة.

 

 

Email