الحرب والحضارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشكل الحرب، منذ نشأة الجماعات البشرية وحتى هذه اللحظة من التاريخ، صفة ملازمة للحضارات البشرية. دعك من التمييز بين حرب عدوانية وحرب غير عدوانية، فهذا أمر نسبي من جهة، ولا يلغي أشكال الحرب وطقوسها من جهة أخرى. فسواء أكانت الحرب عدوانية واعتداءً على حق الآخر، أم دفاعية رداً على العدوان، فإن منطق الغلبة والنصر والهزيمة والاحتلال والاحتفال بموت الآخر والأسر حالات ملازمة للحرب بعامة.

والحق إن الحضارة الراهنة، رغم تقدم العلم والمعرفة وقيم الإنسان لم تتجاوز بعد طريقة حل الخلافات بالمنطق، ولَم تلغِ من حياتها فكرة الخوف من الآخر، ولهذا ما زالت أغلب دول العالم تحتفظ بمؤسسة الجيش، بما تكلفه من أموال طائلة لتوفير العدة والعتاد. والجيش هو المؤسسة التي مهمتها خوض الحروب، سواء أكانت حروباً دفاعية أم حروباً عدوانية، كما قلنا. وهناك أشكال من الحروب، كالحروب الكلاسيكية - جيش مقابل جيش، حروب أهلية حروب بين فئات اجتماعية مسلحة داخل بلد واحد، وهناك حرب عصابات، إلخ.

في كل هذه الحروب ليس هناك فرد محارب لوحده، هناك الجماعة المحاربة، الجماعة المحاربة هي مجموعة كيفية من الأفراد الذين يشكلون جسماً واحداً وذهنية واحدة على اختلاف مع الإنسان الفرد.

والجماعة المحاربة جماعة ذات ثقافة مشتركة، وتكونت داخل ثقافة مشتركة، ولا تظهر فرديتها إطلاقاً، وتنتمي روحها إلى روح الجماعات، كما أشار غوستاف لوبون.

إذاً سلوك الجماعة المحاربة: جيش، عصابة، ميليشيا مختلف جداً عن سلوك الفرد المنتمي إليها. فالقتل سلوك طبيعي للجماعة التي تخوض الحرب، لكنه ليس طبيعياً بالنسبة للفرد في المجتمع.

وإذا كانت الحضارة البشرية قد شهدت حروباً كثيرة، محلية، وبين الدول، وعالمية، فإنها مع الأيام حاولت أن تقنون الحرب، وتجعلها أقل وحشية أو همجية. والكل على علم بوصية أبي بكر الصديق التي جاء فيها: «يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئاً فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله».

أما في العصر الحديث فإن بعض المبادئ الأساسية المتعلقة بقوانين الحرب كما يورد الصليب الأحمر الدولي من عناصر القانون الدولي: يجب أن تقتصر الحروب على تحقيق الأهداف السياسية التي بدأت الحرب لتحقيقها (مثلاً السيطرة الإقليمية)، ويجب ألا تسبب تدميراً لا لزوم له. يجب أن يتم إنهاء الحرب بالسرعة القصوى. ينبغي حماية الناس والممتلكات ممن لا يساهمون في المجهود الحربي من القتل والتدمير.

تحقيقاً لهذه، تهدف قوانين الحرب إلى التخفيف من المعاناة التي تسببها الحرب حماية المقاتلين وغير المقاتلين من المعاناة التي لا داعي لها حماية بعض أساسيات حقوق الإنسان بالنسبة للأشخاص الذين يقعون في أيدي العدو، خاصة أسرى الحرب والجرحى والمرضى والمدنيين. تيسير إعادة السلام لمناطق النزاع.

غير أن الحضارة المعاصرة لم تأت على المرحلة الهمجية من الحروب وروحها المدمرة. سواء أكانت الحروب بين الدول، أم الحروب الأهلية، أم حروب الجماعات الطامعة في السلطة أو البقاء في السلطة. ويبدو أن الهمجية أو البربرية ما زالت حاضرة في لاوعي كثير من الجماعات والسلطات. لا شك أن سلطة، أية سلطة، توجه جيشها وقوات أمنها لقتل متظاهرين لا يملكون سوى حناجرهم هي سلطة همجية بربرية تعود إلى سلوك عنفي غارق في القدم، وإن قتل عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، سلوك متخلف يعود إلا ما قبل البربرية والهمجية، وإن تدمير مدن وقرى على رؤوس ساكنيها باستخدام الطيران الحربي حالة لا يصدق حصولها عقل سليم. كما إن استخدام أسلحة دمار شامل كالسلاح الكيميائي من قبل سلطة ضد سكان آمنين بحجة مواجهة فئات مسلحة إرهابية سلوك لا يصدر إلا عن كائنات ما زالت تعيش في مرحلة غريزة التدمير.

 

كاتب فلسطيني

Email