طهران - واشنطن.. قواعد اشتباك جديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدى خمس عشرة سنة منذ التغيير في العراق عام 2003 تعايش الحضور الإيراني والأميركي براغماتياً في ساحته، وتراوح نفوذهما بين مد وجزر يحكمه اتفاق لإدامة قواعد اشتباك تستبعد التصعيد، ليس انطلاقاً من تقارب في الرؤى، بل من قناعة بأن الصدام قد يكون باهظ التكاليف، خاصة مع احتمال خروجه عن السيطرة.

تطور هذا التعايش الحذر وبلغ حدود التعاون والتنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخبارية خلال سنوات الحرب على تنظيم داعش، فقد ترسخت قناعتهما بأن تعاونهما ميدانياً يحقق لهما المكاسب دون أن يقدم أي منهما تنازلات سياسية للآخر أو يحرجهما إعلامياً، فهو لم يشترط التخفيف من نبرة المعاداة المعلنة بينهما.

لم تطرأ تغيرات تذكر على قواعد الاشتباك هذه مع مجيء إدارة الرئيس ترامب إلا بعد هزيمة تنظيم داعش في العراق، حين أعلنت واشنطن أن مقارباتها للعلاقات مع طهران وللتوازنات الهشة التي أنشأتها إدارة سلفه لم تعد تتفق مع استراتيجية إدارته في منطقة الشرق الأوسط. مساحة الهامش السلمي المهادن الذي رسمه الطرفان لحضورهما في العراق مرشحة للتضييق، وربما للإلغاء، فانسحاب واشنطن من الاتفاقية النووية هو انسحاب من العديد من التفاهمات المعلنة وغير المعلنة مع طهران، فالاثنا عشر شرطاً التي وضعتها الخارجية الأميركية أمام إيران مقابل التطبيع معها، التي رفضتها طهران من الفور، خطوة تصعيدية غير مسبوقة ذات طابع هجومي تستهدف النظام نفسه، وليس سياساته في المنطقة فحسب، فالمطلوب أميركياً استسلام وانكفاء إيران على جميع المحاور.

في ضوء ذلك واستناداً إلى متغيرات أخرى شهدتها المنطقة على مدى الأعوام المنصرمة منذ بدأت الحرب على تنظيم داعش قد لا تقتصر رهانات واشنطن في العراق على من اصطف إلى جانبها أو من لم يقف ضدها أو من خفف من نبرة العداء لها في خطاباته، بل ربما تتجاوز ذلك إلى الرهان على قيادات أخرى لم تخفِ كراهيتها وعداءها لها، قيادات لها تاريخ طويل من الاصطفاف مع طهران منذ الحرب العراقية الإيرانية، توزعت في عدة ائتلافات انتخابية. فالتحولات في الموازين الإقليمية وزيادة عزلة إيران وتحولها لحصان خاسر يصعب الرهان عليه يطرح تساؤلات حول مدى قدراتها على الاحتفاظ بحلفائها. جملة من الأحداث لا تتقبل غير قراءة واحدة، أفول المشروع الإيراني ووصول حلمها التوسعي الإمبراطوري إلى نهايته، فالهزائم المتتالية للميليشيات الحوثية والانهيار الشامل المتوقع قريباً يضع نهاية لحلم طهران في النفاذ إلى شبه الجزيرة العربية.

الانتخابات التشريعية في العراق رسالة قوية عن استيقاظ الوطنية العراقية من خدرها وصحوة الشارع العراقي من غفوته، ودعوة الأميركان والروس معاً لطهران للخروج مع ميليشياتها من سوريا، والحصار الذي تزداد وطأته على ذراعها القوي في لبنان، إضافة إلى تفاقم أزماتها الداخلية واتساع رقعة التذمر في أوساط واسعة على المستويين الشعبي والمؤسساتي، إلى درجة دفعت الرئيس الإيراني روحاني للتصريح في الثالث من يونيو الجاري «إن الشباب والنساء والأقليات محقون في شكاواهم، لأنهم لا يستطيعون الحصول على حقوقهم»، مضيفاً «الأقليات كانت تتمتع بحقوق أكبر قبل الثورة (1979)».

صورة طهران بعد أربعة عقود من الثورة ليست مغرية للتحالف معها أو مع نهجها أو الرهان عليها، إذ لا يمكن تفسير تحالفاتها مع بعض القيادات العراقية بأنها نابعة من الإيمان بوحدة المصير بعيداً عن مصالح وحسابات أخرى تتعلق بالمستقبل السياسي لهذه القيادات، فعالم السياسة البراغماتي غير عالم الأيديولوجيا الرومانسي. وليس من المستبعد في ضوء ذلك أن تشهد طهران تخلي بعض هذه القيادات عنها وتبني مواقف وتحالفات تقربها من الكيانات السياسية الأخرى، ولعل ماراثون تشكيل الحكومة العراقية الذي تتسابق فيه الكيانات السياسية على تشكيل الكتلة السياسية الاختبار الأكبر لمدى عزلة النهج الذي تتخذه تلك القيادات.

وعلى الرغم من تراجع الدور الإيراني على مختلف المحاور فإن خطاب طهران السياسي لا يزال متحدياً، فذلك يخدم وضعها الداخلي، فقد أعلنت أنها ستزيد من قدراتها في تخصيب اليورانيوم من خلال زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي لديها، وأبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بذلك في تحدٍ للولايات المتحدة وللاثني عشر شرطاً التي وضعتها.

من المتوقع أن تتخذ قواعد الاشتباك الإيرانية الأميركية أنماطاً أخرى لا يستبعد فيها حصول أعمال عنف تعيد الساحة العراقية، المؤهلة أكثر من غيرها، إلى حالة اللا استقرار، خاصة أن العراق لا يزال غير قادر على التخلص من التأثيرات الخارجية وفرض حضوره على فضائه السيادي سياسياً وأمنياً.

كاتب عراقي

Email