عقل لبلب الفطن.. وشالوم الأرعن

ت + ت - الحجم الطبيعي

قادني سوء الحظ الذي يغمرني بخبطاته هذه الأيام، بمشاهدة بضع حلقات من البرنامج الفضائي التونسي«شالوم» الذي يزعم صناعه أنه برنامج «كاميرا خفية» يجري تصويره في بيت سري فاخر، سوف يكون محلاً لحوار مع ضيوف البرنامج بهدف حثهم على الدعوة لإخراجه من حال السرية إلى العلنية لكي يغدو مقراً للسفارة الإسرائيلية في المستقبل.

ويقوم البرنامج على خطة تغري عدداً من الشخصيات العامة التي عرف بعضها بعدائه لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، للتصوير في برنامج حواري أجنبي، لتفاجأ تلك الشخصيات مع بدء التصوير أنهم يمثلون وجهاً لوجه مع من يزعم أنه حاخام يهودي، وأفراد ممن يدعون أنهم دعاة سلام قدموا من إسرائيل، يعرضون عليهم أموالاً طائلة للترويج للسلام ولتطبيع العلاقات معها، ويعدون بتقديم الدعم السياسي لهم في الانتخابات.

أما الهدف الذي يتفاخر به صناع البرنامج فهو فضح من يزعمون النضال ضد التطبيع والتمسك بمبادئ الدفاع عن قضايا الأمة، وانكسارهم أمام إغواء مالي، بالتخلي عن تلك المبادئ، لينتهي الأمر بتبرئة من سعوا للترويج للتطبيع مع إسرائيل، وتلويث سمعة من ناضلوا لوضع المقاطعة على جدول العمل الوطني التونسي، وإجبارهم «كما تبين فيما بعد» تحت تهديد السلاح بقول ما يريد صناع البرنامج قوله!

يظل سؤال الجدوى يلاحق هذا اللون من الفجاجة الإعلامية التي تخدم إسرائيل بانشغالها بالانتقام السياسي من أعدائها، بحصرهم بين الكاميرا والتهديد بالسلاح لتشويه سمعتهم، والتشكيك في صدقية مبادئ العداء لها. ويظل سؤال التوقيت ملحاً عن بث هذا الغثاء وأكثر من شهر يمضي على استمرار انتفاضة العودة للشعب الفلسطيني، الذي يلتقط شبابه وأطفاله ونساؤه الحجارة من الأرض ليواجهوا بها جيشاً مدججاً بالمصفحات والدبابات والرصاص الحي، ليسقط منهم شهداء وجرحى وأسرى كل يوم، لتظهر أفواج جديدة منهم في اليوم التالي يستصرخون ضمائر العالم لنيل حقوقهم المسلوبة من دولة فاشية محمية بقانون دولي مختل العقل والميزان.

قد لا يخفي على لبيب توظيف البرنامج في الصراع السياسي الدائر الآن بين حزب النهضة الإخواني، وبين القوى السياسية المدنية الطامحة لحماية المجتمع التونسي من كوارث التطرف الديني، والساعية لبناء دولة مدنية ديمقراطية لا خلط فيها بين الدين والسياسة.

وفي هذا السياق لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون الضيف النائب عن حزب النهضة من بين القلائل الذي بدا متعففاً حين راح يلقي دروساً لممثلي الجانب الإسرائيلي في البرنامج عن حقوق الشعب الفلسطيني، ورفضه التطبيع مع إسرائيل.!

ذكرني برنامج شالوم بواحد من أجمل الأفلام المصرية الذي عُرض لأول مرة في إبريل عام 1952بعنوان «شمشون ولبلب» وبعد أيام من عرضه سحب من دور السينما ليعود بعد أشهر وقد تغير اسمه إلى «عنتر ولبلب» بعد الاحتجاج الذي قدمه حاخام اليهود في مصر «حاييم ناحوم» أفندي، على إطلاق الفيلم اسم نبي مقدس في الديانة اليهودية، على الشخصية الشريرة في الفيلم.

أوجه الشبه بين البرنامج والفيلم، هو كيف يعالج الفن قضية فيشوهها بخيال مريض، ويخسف بها الأرض ويخدم خصومها، وكيف يرتقي بها ويحشد حولها بخيال خصب خلاق،يمزج الفكاهة والضحك بالرسائل السياسية الشديدة الوضوح. والفيلم الذي كتبه وأخرجه اللبناني من أصل مجري سيف الدين شوكت يروي قصة الصراع في حارة مصرية بين عنتر «سراج منير» الغريب الذي يفد على الحارة مدججاً بالسلاح والبلطجية لينتزع بالقوة قطعة من أرضها، ويقيم عليها مطعماً وملهى ليلياً، إلى أن يصيب الحارة الكساد والضيق من استغلاله وجشعه، فيقرر «لبلب»صاحب مطعم الحرية التصدي له، رغم أنه أكثر ضعفاً وأقل حجماً بدنياً منه، فيراهنه ويقبل الرهان، على أن يقوم بصفعه على امتداد أسبوع سبع صفعات، فإذا نجح في ذلك،حقق عنتر مطلب الحارة بالجلاء عنها دون قيد أو شرط، وإذا لم ينجح غادر لبلب الحارة وتركها لمغتصبها. لكن لبلب ينجح بذكائه وفطنته ودعم أهل الحارة له، في هزيمة عنتر وإجباره على مغادرة الحارة، بعد أن انتصر صاحب الحق على المغتصب، ونجح ذكاء العقل على هزيمة حماقة القوة.

والفيلم جاء في أعقاب حرب 1948التي انتهت باغتصاب فلسطين، وعقب إلغاء معاهدة 1936، وبدء الكفاح المسلح ضد الاحتلال الانجليزي في مدن القناة، ليبعث برسالة أمل أن القوة الغاشمة لا تثبت حقاً، وأن دهاء العقل وذكاءه والإصرار على نيل الحق من شأنه النصر على الباطل المدجج بالقوة المفرطة.

وُرب ضارة نافعة، فقد تم وقف برنامج شالوم بحكم قضائي بعد أن انقلب السحر على الساحر وفضح معديه ومقدميه، ونددت نقابة الصحفيين بانتهاكه الصارخ لأخلاقيات المهنة، كما يستعد البرلمان التونسي لمناقشة مشروع قانون لتحريم التطبيع مع إسرائيل، تعرقل صدوره أكثر من مرة، وهي خطوات هامة لوقف استخدام الإعلام لخلط الأوراق والمواقف!

Email