صفقات الكبار على حساب من؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يجري في سوريا الآن لا بد من النظر إليه بجدية كاملة، لأنه، بعيداً عن التفاصيل الصغيرة، يعني أن المنطقة كلها تسير نحو مرحلة جديدة ومختلفة من مراحل الصراع على حاضرها ومستقبلها.

الآن.. يبدو أن الإعلان السابق للرئيس الأميركي ترامب بعزمه سحب القوات الأميركية من سوريا، الذي عاد وتراجع عنه جزئياً، لم يكن مناورة أو لعبة من ألعابه السياسية المتناقضة، وإنما كان إشارة للقوى الكبرى (وفي المقدمة روسيا) إلى أن «اللعبة» قد أشرفت على النهاية، وأن وقت التسويات والصفقات السياسية قد حان!!

تراجع ترامب عن قرار الانسحاب الفوري، وقيل إن ضغوط الجنرالات الأميركان كان السبب، لكنه أكد أن الانسحاب قريب وأن المهمة الأساسية وهي ضرب «داعش» قد تم إنجازها، وكان ذلك كافياً لأن تصل الرسالة لكل الأطراف، وأن تبدأ مرحلة جديدة وحاسمة في الصراع على سوريا وفي أرضها.

وكان أهم ما في الرسالة أن الأوضاع قد وصلت إلى حد الاختيار بين التوافق الروسي الأميركي أو الصدام الذي لا يعرف أحد إلى أين يذهب بالمنطقة والعالم، وكان الحديث «مجرد الحديث» عن الانسحاب يعني الرغبة الأميركية في تجنب الصدام المباشر، وهو ما يتوافق بالطبع مع مصالح روسيا ويؤمن وجودها الاستراتيجي على البحر المتوسط، وكان هذا أيضاً ما فهمته أوروبا «وخاصة فرنسا» التي سارعت بالوجود العسكري الرمزي في سوريا لضمان مكان لها في التسويات النهائية.

وكان هذا يعني أن دور الحروب بالوكالة قد انتهى، ولعلنا ننتبه هنا إلى أن الاتفاق الأخير الذي أعلن عنه حول الأوضاع في جنوب سوريا يشير إلى أمرين مهمين: الأول أن الاتفاق يتم أساساً بتوافق روسي ـ أميركي.

والثاني أن ما أعلنته روسيا عن ضرورة إنهاء أي وجود عسكري أجنبي في سوريا لا بد أن يكون ناتجاً عن اتفاق بين القوتين العظميين، وهو يعني بالضرورة تراجع الدور الإيراني وسحب الميليشيات الأجنبية التابعة له، كما يعني انسحاب تركيا بعد تأمين الأوضاع على الحدود.

وليست مصادفة أن ترعى فرنسا، في الوقت نفسه، محاولات إنهاء الحروب الأهلية في ليبيا والتوصل إلى حل سياسي، كانت الدول العربية المجاورة لليبيا «مصر والجزائر وتونس» تبذل الجهد من أجل الوصول إليه، إدراكاً منها بخطورة استمرار الأوضاع الحالية في ليبيا وتهديدها أمن المنطقة كلها.

السرعة التي تعمل بها فرنسا أخيراً في هذا الملف «وقد كانت سياستها في السابق أحد أسباب النكبة في ليبيا!!» تعني أن الإحساس بالخطر على أوروبا يزداد، وأن التقديرات بأن إنهاء الصراع في سوريا يترافق مع محاولات تحويل ليبيا إلى مركز أساسي لجماعات الإرهاب هي تقديرات مفزعة.

والتوافق الذي تم على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ديسمبر المقبل قد يكون متفائلاً أكثر من اللازم، لكنه بالتأكيد يعكس توجهاً دولياً لإنهاء الأزمة وحصار منابع الخطر في ليبيا، ويعكس ضغوطاً على الأطراف المتحاربة لفهم متطلبات الأوضاع في المنطقة والعالم، وإن كانت الأمور ما زالت ضبابية إلى حدٍ كبير، وتحتاج إلى حسمٍ تفهم منه الأطراف المتقاتلة أن عواقب الخروج على الاتفاق ستكون باهظة التكاليف، وتفهم منه الأطراف التي تدعم الخوارج وعصابات الإرهاب في ليبيا، سواء كانت دولاً أم جماعات، أن اللعبة قد انتهت!!

والخوف هنا «كما في سوريا» أن تكون التوافقات الدولية قادمة من منطق تجنب الصراع المباشر، وليس بناء الاستقرار في المنطقة. وبالقطع فإن الغياب العربي كان مؤلماً، وسنوات الاضطراب واستنزاف الجهد كان ثمنها باهظاً، لكن علينا أن ننطلق من النقاط الإيجابية لدينا لنواجه تحديات المرحلة الجديدة من الصراع، ولكي نحسم الأمر لصالحنا في النهاية.

هناك التصدي المبكر لخطر الزحف الإيراني، والمواجهة المباشرة التي منعت تحويل اليمن الشقيق إلى قاعدة لنشر الفتنة الطائفية والحروب المذهبية في المنطقة، ولتحقيق أطماع الملالي وميليشياتهم في تحويل الخليج العربي إلى ساحة نفوذ فارسي، والتحكم في الخليج وباب المندب والبحر الأحمر. سقطت هذه الأوهام ولم يعد السؤال في اليمن إلا عن موعد السقوط النهائي لعملاء الملالي، والإنقاذ الشامل والقريب لكل اليمن.

وهناك إسقاط الحكم الفاشي لجماعة الإخوان الذي استولى على مقاليد الأمور في مصر لعام أسود، كانت نهايته هي بداية النهاية المحتومة لهذه الجماعة التي أسست للإرهاب، التي خرج من عباءتها كل الجماعات التي سارت في طريق التطرف.

وهناك الإدراك باستحالة أن يستمر الصبر بلا نهاية على الجرائم التي يرتكبها حكام قطر، وهم يتحالفون مع الإخوان، ويستعينون بكل من يعادي العروبة للإضرار بدول شقيقة في الخليج والوطن العربي. لقد كان قرار المقاطعة إعلاناً صريحاً بأن مرحلة الرهان على إسقاط الدول الوطنية وتسليمها لجماعات الإرهاب الإخوانية قد انتهت، وأنه إذا كان استئصال الإرهاب قد أصبح فريضة لإنقاذ العرب والمسلمين فإنه لا مكان لمن قدم الدعم لهذا الإرهاب، ووفر الملاذ للقتلة الهاربين بإرهابهم وجرائمهم. كانت المقاطعة قراراً لا بد منه، ولعل حكام قطر الآن وقبل الغد، أن يعلموا أن مرحلة جديدة من الصراع قد بدأت، وأن عليهم أن يراجعوا حساباتهم بعد أن انتهت اللعبة التي كان لهم فيها دور.. وما كان أسوأ الدور وأبشع الأوامر!!

أمامنا فترة صعبة. الأقوياء ينجزون التسويات ويعقدون الصفقات، علينا أن نستعد جيداً حتى لا ندفع الثمن مرة أخرى. إنجاز المهمة المعلقة ضروري، إسقاط الميليشيات العميلة في اليمن، وعصابات الإخوان والدواعش في ليبيا مهمة ضرورية وعاجلة. لدينا فرصة وهناك مخاطر، حساباتنا يجب ألا تخطئ لأن الأوضاع لا تحتمل الخطأ في الحسابات.

* كاتب مصري

Email