مايو 1968.. فرنسا بين المستحيل والممكن

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تزال أحداث «مايو 1968» في فرنسا وأصداؤها في العالم، ورغم مضي خمسين عاماً، مثيرة للجدل والتفكير وإعادة قراءة هذه الأحداث، وتقييم حصادها وما بقي منها، وما تبقى من ميراثها، العديد من المقالات في صحف كبيرة فرنسية وأميركية، تمحورت موضوعاتها حول هذه الأحداث، وكذلك الأفلام الوثائقية التي جمعت بين من بقوا على قيد الحياة، وعاصروها من مختلف المؤسسات والفئات، البوليس وبعض الذين شاركوا فيها من الطلاب والمؤرخين والعمال والفنانين، كل يدلي بشهادته، وفق موقعه في الأحداث والزاوية التي نظر إليها منها.

هذه الأحداث التي اتخذت فرنسا مسرحاً لها، جرت في مناخ دولي متأزم من حرب فيتنام إلى ألمانيا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة الأميركية، وغيرها العديد من الدول، وقد انفردت فرنسا دوناً عن غيرها من هذه الدول، بأن الأحداث تجاوزت فئة الطلاب المتمردين، لتمتد إلى فئات عديدة من المجتمع الفرنسي، خاصة العمال، كما شهدت مصر أيضاً تظاهرات الطلاب في 1968، ضد الأحكام التي رأوها غير ملائمة للمسؤولين عن هزيمة 1967.

لم تحظَ هذه الأحداث بإجماع المفكرين والكتاب حول الحصاد الإيجابي لها، فثمة من استنكرها وأدان المصادر الفلسفية الفوضوية والوجودية والماركسية التي شكلت وعي قادتها وتفكيرهم، وكذلك من نسب إلى هذه الأحداث تعزيز الفردية والليبرالية المتصاعدة، في حين أن ثمة من المفكرين والمثقفين من يعترف لهذه الأحداث بتخفيض فجوة العدالة الاجتماعية بين الطبقات، وفقدان المساواة، ويقارن هؤلاء فرنسا قبل 1968، وفرنسا بعدها، على الأقل من زاوية الأجور الدنيا والوسطى، ففي فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كانت شهدت نمواً ملحوظاً، إلا أن فجوة العدالة الاجتماعية بين الطبقات كانت في ازدياد، حيث كان نصيب ذوى الدخل المرتفع ويمثلون 10 %، كان يمثل 30 % من الدخل الإجمالي عام 1945، وارتفعت هذه النسبة تدريجياً حتى وصلت إلى 37 % عام 1967، وواصلت أجور الكوادر أيضاً ارتفاعها، بينما بقيت الأجور الدنيا تراوح مكانها، أما بعد أحداث 1968، فقد حدث انقطاع في هذا التواصل، حيث وافقت الحكومة على رفع الحد الأدنى للأجر بنسبة 20 %، وزادت القوة الشرائية لأصحابه بنسبة كبيرة، وقد ترافق ذلك مع حصول العمال على سلطة حقيقية في الشركات والمصانع، واستثمار كثيف في التعليم ونظام التأمين الصحي.

كان المفكر والفيلسوف الفرنسي الراحل، جان بول سارتر، من أشد المؤيدين والمتعاطفين مع تمرد 1968، وأكد ذلك لقادة التمرد قائلاً «إن ما يثير الاهتمام في حركتكم، أنها قد وضعت الخيال في السلطة، ورغم أن خيالكم متواضع، كشأن كل الناس، إلا أنكم تتميزون عن الآخرين بأنكم أخرجتم شيئاً مدهشاً ومثيراً، والذي أسميه توسيع حقل الممكن»، لم يكتفِ سارتر بذلك، بل حرض على التظاهر في جامعة السوربون، وخطب في الطلاب، وعندما طالب بعض مستشاري الجنرال ديغول باعتقال سارتر، رد عليهم الجنرال ديغول، بأنه غير ممكن «فسارتر هو فرنسا، أي أنه يمثل حساسية فرنسا الثقافية والفكرية والفلسفية والسياسية».

جمعت أحداث مايو 1968 في فرنسا، بين فئتين من المجتمع الفرنسي، هما الأكثر حضوراً فيها، وذلك لم يعنِ اقتصار الأحداث على هاتين الفئتين، ألا وهي الطلاب والعمال في الجامعات، وخاصة السوربون ونانتير، وفي المصانع والشركات، وبقدر ما أعطى اجتماع هاتين الفئتين لهذه الأحداث زخماً وقوة وتأثيراً فرنسياً ودولياً، بقدر ما أضعفها وحال دون تحقيق أهدافها على النحو الذي كان مأمولاً.

فالعمال في الشركات والمصانع، كانت حركتهم مطلبية، تتمثل في الأجور وساعات العمل، والمشاركة في إدارة الإنتاج، وغير ذلك من المطالب الحياتية والعمالية، في حين أن الطلاب كانوا يرددون في شعاراتهم ورسوماتهم «كن واقعياً واطلب المستحيل»، وتستحوذ عليهم الرغبة في الحرية المطلقة للذات الإنسانية، وهى مطالب تدخل في إطار الفلسفة، بأكثر مما تدخل في إطار السياسة الواقعية، وذلك فضلاً عن تجاوزها للمطالب المادية والحياتية.

وقد أفضى هذا الاختلاف في الأهداف والمطالب، ورغم شعار وحدة الطلاب والعمال، إلى ما يسميه بعض الكتاب والمؤرخين، وجود نسختين من مايو 1968، ويضيف البعض إلى هاتين النسختين من مايو 1968 «نسخة ثالثة»، ولكنها ضد مايو 1968، ويقصدون بذلك، أنه في 30 مايو 1968، خرج ما يقرب من النصف مليون مواطن فرنسي في «الشانزيليزيه»، مؤيدين الجنرال «ديغول»، وكانت هذه التظاهرة، الأكبر من نوعها في هذا التاريخ وهذا التطور، في ما يبدو قد وضع حركة الطلاب في مكانها الصحيح، وأفضت إلى انتخاب ديغول مجدداً في يونيو 1968 لرئاسة فرنسا، وظل اليمين في السلطة منذ ذلك التاريخ حتى عام 1981.

Email