مساعي إعادة بناء أسس القيادة في كوريا الجنوبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قلة هم القادة الذي تلقوا مع انطلاقة عهدهم صفعة تشبه تلك التي أصابت مون جاي إن، رئيس كوريا الجنوبية، الذي وصل إلى سدة الحكم في مايو المنصرم. وقد ظهرت بدايةً مشكلة استعادة الثقة العامة عقب فضائح الفساد التي أثقلت إدارة سلفه الرئيسة السابقة بارك غوين هي.

وما لبثت أن فرضت بعدها الصين أكبر الدول المجاورة جموداً اقتصادياً ودبلوماسياً في فبراير، رداً على قرار سيئول نشر منظومة الدفاع الصاروخية أميركية الصنع «ثاد». وشرع تالياً زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في تسريع عملية الحصول على الأسلحة النووية مسبباً أزمةً عالمية.


إلا أن مون سرعان ما أصبح شخصيةً موحِّدة لبلاد مهشمة سياسياً، ولو لفترة مؤقتة، حقق خلالها شعبيةً غير مسبوقة، على الرغم من فوزه بنسبة 40 في المئة فقط من أصوات الناخبين. وحقق جاي نسبة تأييد بلغت خلال الشهر الأول من حكمه 75 في المئة. وقد شكلت مقاربته الهادئة والمنفتحة للأمور نقيضاً صارخاً لتكتم الرئيسة السابقة غوين هي، وفسادها، واستبدادها المستشري.


وكان مون قد أدى يمين الولاء، على إثر النشاط الصحافي الذي أسقط سلفه، بترؤس حكومة انفتاح، وتحرك باتجاه تقليص نفوذ ائتلاف الشركات المتغطرسة المعروف باسم تشايبول، معتمداً سياسةً أكثر انفتاحاً وأقسى عقوبةً حيال الجرائم المالية.


وأبدى مون استعداداً للتقارب مع الشعب، وشدد في حديث مع الصحافة على الفارق بين مواقفه والتقارب المريب مع أفراد الدائرة الخاصة لغوين هيو. إلا أن مرونته السياسية قد أثمرت، إذ إنه على الرغم من معارضته العلنية لمنظومة «ثاد»، تمكن من رأب الصدع مع بكين من دون التضحية بخيارات البلاد الدفاعية عبر اتباع أسلوب المساعي الدبلوماسية الصبورة.


وأسهم تعاطي مون مع ملف كوريا الشمالية بالجانب الأكبر الذي وضعه في دائرة الضوء، ومع أنه لا توجد حلول قريبة تلوح في أفق العلاقة، فإن الدفع الحاسم باتجاه السلام قد شكّل بديلاً مرحباً به للقعقعة المسموعة في كل من بيونغيانغ وواشنطن.


وسبق انتخاب مون كلام لنقاد ظنوا أن الرئيس الجديد سيضعف أمام تهديدات الجارة الشمالية، لا سيما أن محاولاته السابقة في الحكومة القائمة على الانفتاح على بيونغيانغ عبر مزيج من الارتباط والمحفزات قد اعتُبرت بصورة غير عادلة إخفاقاً في أوساط الشعب الكوري الجنوبي والخبراء الدوليين.


وكان بإمكان قائد أقل قوةً من مون أن يحاول تمييع تلك المخاوف عن طريق الخطابات القوية، إلا أنه منذ توليه السلطة، تمسّك بمواقفه من الحوار. وعلى الرغم من استفزازات بيونغيانغ، لم يخفف مون لهجته معلناً أن المحادثات مع كوريا الشمالية مسألة حيوية. وقد شكل ذلك مرادفاً إما لتجاهل أو لمواجهة تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وشكاوى المحافظين في كوريا الجنوبية.


ويؤكد مون معارضته التامة لحرب أخرى على شبه الجزيرة الكورية ويستخدم قوة حق النقض الفيتو، بوجه أي تدخلات أميركية محتملة. وقد أعلن في ظل تزايد أعداد المطالبين بحصول كوريا الجنوبية على الأسلحة النووية، أنه حين لا يمكن تقبل كوريا شمالية أو التسامح معها لحيازتها الأسلحة النووية، فإنه لا يمكن لبلاده اقتناؤها أيضاً.


أرسى مون خريطة السلام الخاصة به على امتداد شبه الجزيرة في يوليو الماضي باعتبارها جزءاً من أجندة سياسية واسعة النطاق. وقد تبدو رؤيته المتعلقة بالتخلص من الأسلحة النووية بحلول عام 2020 طوباويةً في ظل تحميل بيونغيانغ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بالرؤوس النووية الصغيرة.


وقال جيفري لويس، الخبير النووي معلقاً: «إنها خطة بعيدة المدى، لكن الترسانة النووية المتعاظمة لكوريا الشمالية مشكلة متفاقمة وتتطلب حلاً ضخماً وجريئاً».


وتشكل مهادنات مون السلمية نتاج إيمان وتجربة، إذ بدأ حياته ناشطاً ديمقراطياً بالتزامن مع غرق كوريا الجنوبية في براثن الديكتاتورية، وعزمه على السير في مساعي السلام ليس إلا انعكاساً لمبادئه الدينية العميقة، والتزامه الخدمة العامة والمحافظة الاجتماعية.


أما فيما يتعلق بإجراء المحادثات مع كيم يونغ أون، فيعتبر مون حتماً أفضل في التعامل مع النظام الديكتاتوري من نظيره الأميركي. ويتحلى، كما دوّن في كتابه الصادر في يناير الماضي، بإيمان يقول إنه حين يحلّ السلام بين الكوريتين، فإن أول ما يرغب في فعله هو اصطحاب والدته التسعينية إلى مسقط رأسها، قبل أن تفر مع بقية العائلة كلاجئين.

*محرر منطقة آسيا في «فورين بوليسي»

Email