«الهولوكوست» والعودة بحراً وبراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

القوة السافرة مهما كانت قدرتها على القتل والتدمير غالباً تقصر عن تحقيق أهدافها، أو على الأقل تتعثر في تحقيق هذه الأهداف المنوطة بها، في حين أن تغليف هذه القوة بدعاوى أخلاقية وقيمية وحضارية، يدعم فاعلية هذه القوة وتأثيرها ويغطي على تداعيات استخدامها الكارثية، ومن ثم فإننا نجد في التاريخ، سواء منه الوسيط أو الحديث أو المعاصر أن استخدام القوة ترافق دوماً مع شعارات وقيم تخفي حقيقة المصالح التي تحرك استخدام هذه القوة، وفي التاريخ الحديث والمعاصر، ترافقت الحملات الاستعمارية للسيطرة على بلدان العالم الثالث والولايات العثمانية في العالم العربي مع دعوى التحضر والمدنية ورسالة «الرجل الأبيض».

في الحالة الإسرائيلية كان استخدام القوة في معظم المراحل وحتى الآن مغلفاً بأكاذيب عدة، بـ«الاستقلال» تارة وبـ«الدفاع الشرعي عن النفس» تارة أخرى ومحاربة «الإرهاب» الفلسطيني تارة ثالثة، ومن خلال الحرب الدعائية والنفسية الصهيونية والإسرائيلية والدوائر التي ترتبط بها في الغرب يبدو أن إسرائيل حتى الآن تكسب الجولة وتخفي حقيقة استخدام قوتها تحت شعارات أخلاقية وقيمية،

وفي هذه اللحظات الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية يبدو أن استراتيجية المواجهة الراهنة لا بد وأن تأخذ في اعتبارها ضرورة نزع الغطاء الأخلاقي عن إسرائيل وكشف طبيعة عنصريتها إزاء العرب والفلسطينيين وهي المعركة التي يبدو أننا حتى الآن لم نخضها بعد.

وهذا الطريق الطويل الذي علينا شعوباً وحكومات ومنظمات مجتمع مدني أن نسير فيه، قد يبدأ بخطوة ألا وهي مطالبة المجتمع الدولي ومنظماته وهيئاته بانطباق جريمة «الهولوكست» أو جريمة الإبادة على الشعب الفلسطيني عبر ملف تاريخي موثق حول عمليات التطهير العرقي والطرد والتشريد والتمييز العنصري الذي مارسته إسرائيل قبل وبعد نشأة الدولة.

طالب الأرمن بذلك في عام 1987 أي بانطباق جريمة الإبادة على ما تعرض له الأرمن في تركيا عامي 1915، 1916 وحصلوا على اعتراف البرلمان الأوروبي بانطباق هذا المفهوم عليهم في وثيقة تاريخية صادرة عنه.

والهدف بالتأكيد في الحالة الإسرائيلية هو كسر احتكار إسرائيل واليهود «للهولوكست» وإنهاء التفرد والاستثنائية التي يحظى بها اليهود، لأن ذلك أفضى إلى استمرار اليهود في اعتبارهم الضحية الأولى ووضعهم في صدارة المعاناة الإنسانية.

مطالبة المجتمع الدولي بذلك يعني مطالبته بعدم وضع تراتبية للمعاناة، ذلك أن كافة أشكال المعاناة إنسانية وتستحق الإدانة والاستنكار، اليهود، الأرمن الشعب الفلسطيني، العبودية، الهنود الحمر، ويجب إنهاء التمييز في المعاناة وتفضيل إحداهما على الأخرى، وحتى بافتراض عدم النجاح في تحقيق هذا الهدف، فإنه بلا شك ستفضي هذه المحاولة للفت أنظار قطاعات كبيرة من الرأي العام الغربي نحو ما يجري في أرض فلسطين، وسيتساءل الكثيرون هل حقاً ارتكبت إسرائيل جريمة «الهولوكوست» بحق الشعب الفلسطيني، وسيضطرون للاطلاع على الرواية العربية الفلسطينية الغائبة خاصة في هذه الآونة التي تزداد فيها المقاطعة الرسمية والشعبية لإسرائيل في العديد من الدوائر الغربية.

ربما يجد الإسرائيليون في ذلك محاولة لسرقة تاريخهم على غرار ما صرح به إسحاق شامير لدى إعداد منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1987 سفينة العودة عقب إبعاد إسرائيل لبعض المدنيين الفلسطينيين، وهي العملية التي أدانها مجلس الأمن في قراره رقم 607، صرح شامير حينئذ قائلاً «إنهم يسرقون تاريخنا» في إشارة إلى السفينة التي كانت تحمل المهاجرين اليهود «إس إس باتريا» عام 1939 ورفضت سلطات الانتداب البريطاني آنذاك السماح لهؤلاء المهاجرين بالنزول إلى شواطئ فلسطين في مدينة حيفا، نظراً لأنها كانت قد حددت أعداد هؤلاء المهاجرين، ورغم أن الوكالة اليهودية قد حاولت إثناء سلطات الانتداب عن هذا القرار؛ إلا أنها لم تنجح في ذلك، وحينئذ كلف موسى شاريت وكان مسؤول الدائرة السياسية بالوكالة اليهودية عن طريق عصابات «الهاجاناه» بتفجير السفينة وقام عملاء «الهاجاناه» بوضع متفجرات بجوار محركات السفينة وراح ضحية هذه العملية ما يقرب من 260 مهاجرا وأصيب 172 آخرون.

العودة الفلسطينية آتية لا ريب فيها إن عن طريق البحر أو البر، فالشعب الفلسطيني لا يزال وبعد مائة عام من المقاومة قادراً على صنع الدهشة وابتكار الوسائل الجديدة والسلمية وغير المسبوقة لفرض قضيته على مختلف الدوائر وفي مواجهة من يريدون تصفية قضيته، ويعرف الشعب الفلسطيني قواعد الاشتباك المدني والسلمي في ظل اختلال موازين القوى.

Email