سيّدي.. اعْتَرَفْ

ت + ت - الحجم الطبيعي

تروي إحدى الطُرَف أن زعيم دولة ديكتاتورية لاحظ انخفاض مستوى ابنه الدراسي في مادة الرياضيات، فأراد إحضار مدرس خصوصي لمساعدته، فنادى مدير الشرطة وكان «قبضاي» من الدرجة الأولى وأخبره أن يبحث عن أفضل مدرس رياضيات على وجه السرعة، بعد أيام عاد الابن يسأل والده عن المدرس الذي سوف يساعده ولم يأتِ حتى الساعة، فنادى الزعيم من جديد بإحضار مدير الشرطة وسأله فور قدومه: «أين المدرس الذي طلبته منك؟»، فرد المدير: «اعترف سيدي بجرائمه وتم إعدامه»!

الرسالة التي توصلها هذه الطُرفة أنّ هناك من يمر «مغفّي» ودون أن يعي ما المطلوب خلال إعلان التوجهات العامة، لكنه يجري مع الناس على أمل أن ينزل عليه الوحي فيُبيّن له ما لم يعلم، أو تنشق الأرض عن معجزة فتخبره بما يجب أن يفعل لترجمة تلك التعليمات التي سمعها لكنه لم يفهمها، وكابَرَ أنْ يسأل مزيداً من التوضيح حتى «لا يروح البرستيج» ولا «يطلع» الوحيد الذي لم يفهم من بين الآخرين وما يمكن أن يُشكّله ذلك من بوادر تهديد لمنصبه إنْ لوحظ عدم استيعابه للتعليمات سريعاً كالبقية!

نسمع ونقرأ دوماً عن اهتمام الحكومة بإسعاد المتعاملين والعمل على رفع معدلات الرضا عن خدمات المؤسسات الحكومية، وللأمانة فهناك العديد من المؤسسات التي تجتهد فعلاً لجعل تجربة العميل سهلة ومثمرة ويستطيع من خلالها الحصول على الخدمة المطلوبة في وقت سريع وبصورة تلائم ظروفه ووقته المتاح، هذه المؤسسات لديها وضوح عالٍ فيما تُقدِّم من خدمات وكيف يجب أن تُقدّمها ولمن بالضبط من قطاعات المجتمع وما هي معايير جودة تقديم تلك الخدمة من وجهة نظر مُتلقيها من المتعاملين وليس بمزاجيات سعادة المدير أو أحد فلاسفة المكاتب الاستشارية أو محترفي التطبيل الداخلي!

على الجانب الآخر نكاد نُصاب بجلطة من طريقة فهم البعض لقضية إسعاد المتعاملين، فهو يخلط بين «إسعادهم» بالتميز في تقديم «خدمة» لا تقدّمها سوى مؤسسته وبين «إسعادهم» وكأنهم يحضرون احتفالاً بمناسبة اجتماعية، فتجد الاهتمام بتوفير «البلاليط» و«البثيث» و«اللقيمات» للمنتظرين للحصول على الخدمة أكثر من الاهتمام بجودة تلك الخدمة وتقليل زمن تقديمها!

لتبسيط الأمر وحتى يفهمنا البعض ولا يتقمّص دور البطل المظلوم، فنحن ننتقد السلوك لا الشخص وخلافنا ينصب على قضية محددة وليس مع طرف تلك القضية، تخيّل معي عزيزي القارئ أن تذهب لشراء جهاز «آيفون» من إحدى متاجر شركة أبل، لكنّك بدلاً من أن تستلم المنتج المطلوب يتم إغراقك بصحون الأكل وفناجين القهوة وربما قاموا برشّك بماء الورد و«تدخينك» بالعود أيضاً، فهل ستخرج راضياً؟ بالتأكيد لا، لأنك أتيت لاستلام منتج معين تحتاجه لجعل حياتك أسهل وأكثر تنظيماً، فصحن البلاليط لن يتصل بمن تريد الاتصال به، و«خاشوقة» الحلوى السلطانية لن تُفعّل حسابات البريد الإلكتروني لك، و«الدخون» قد ينزّل «زيرانك» من القهر ولكنه لن ينزّل تطبيقات الآيتيونز المهمة لك ولعملك!

يُنبّه عرّاب التنافسية مايكل بورتر إلى نقطة حسّاسة يغفل عنها الكثيرون بينما تعتبر محور نجاح المؤسسات عندما يقول إنّ: «جوهر الاستراتيجية يقوم على معرفة ما لا يجب أن تقوم به أصلاً»، فهناك الكثير من المؤسسات ومَن بها على درجة عالية من الانشغال، لكنّه انشغال بأمور ثانوية غير مهمة، والإشكال عندما تكون على حساب أمور عالية الأهمية وعليها مدار نجاح المؤسسة ومَن بها، لكن البشر كثيراً ما يميلون للانشغال كثيراً بما يميلون له وما يعرفونه جيداً حتى يبدو للآخرين أنهم ينجزون شيئاً مهماً، فيضيع الأهم من أجل الأقل أهمية والفاضل من أجل المفضول، وتضيع الخدمة وتطويرها والاهتمام بها لعيون صحون الأكل وفلاشات الكاميرات ثم البحث عن عدد «الريتويت» الذي تحصّل عليه ذلك الخبر في تويتر!

المبادرات الرائعة لا تَفْشَل بنفسها، ولكن يُفْشِلها من لا يتواضع إنْ لم يفهم ويسأل أكثر عن الغاية والهدف المطلوب الوصول إليه وما يُمكن أن يؤدي لتلك الغاية وما يُمكن أن يؤدي إلى نقيضها، فالوقت والجهد والتكلفة عوامل حاسمة في معترك تنافسية الدول، وفي دولة عالية الطموح كبلادنا، حفظها الله تعالى، وحكومة رشيدة حدّدت جيداً المسار الذي تريد أن تسلكه لأجل مستقبلٍ مبهر يُكمِل الحاضر الجميل، فإنّ كل ثانية من الزمن مهمة، وكل جُهدٍ مبذول لا بد أن يوجّه للاتجاه الصحيح، وكل درهم يُنفق لا بد أن يكون في خدمة الغايات المتفق عليها، وكما يقال في علم الأصول بأنّ «لا اجتهاد مع النص»، فالتوجهات الرسمية مُعلنة، والأهداف مُحدّدة، ومَن أصابه لَبْس في فهم توجّه معين فإن الحل بالسؤال والاستفسار وليس بصحن البلاليط!

Email