بريطانيا والأجيال التي بنتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأزمة الداخلية الأخيرة التي تواجهها تريزا ماي بخصوص مهاجرين رحبت بهم بلادها قبل عقود تذهب لما هو أبعد من حدود بريطانيا، إذ صارت تمس مفاوضات البريكست. وهي أزمة تظل المسألة العرقية حاضرة فيها بقوة.

فالأزمة التي بدأت منذ نوفمبر الماضي، وتفاقمت في الآونة الأخيرة، فاستدعت اعتذاراً من وزيرة الداخلية ثم اعتذاراً وتعهدات من رئيسة الوزراء تتعلق بما يعرف في بريطانيا باسم «جيل ويندراش».

و«ويندراش» هو اسم أول سفينة وصلت للشواطئ البريطانية تحمل الآلاف من مهاجري دول الكاريبي عام 1948 بدعوة صريحة من الحكومة البريطانية وقتها. فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت بريطانيا قد دمرتها الحرب وتواجه ندرة في العمالة التي تحتاجها في جهود إعادة البناء. فدعت أبناء دول الكاريبي للمجيء للمشاركة في البناء.

وقد وصل لبريطانيا وقتها الآلاف وأسهموا بالفعل في بناء البلاد التي اعتبروها منذ ذلك الحين بلادهم وصاروا من دافعي الضرائب فيها. وقد ظل مرحباً بهؤلاء الذين توافدوا على بريطانيا على دفعات حتى صار عددهم الإجمالي يقترب من نصف مليون، قبل أن يتم إغلاق باب تلك الهجرات عام 1971، إذ لم تعد هناك حاجة للمزيد منهم.

غير أن سياسات الهجرة في العقد الأخير في بريطانيا طالت ضمن من طالت عدداً كبيراً من هؤلاء المهاجرين الذين صاروا اليوم في سن الشيخوخة أو اقتربوا منها. والكثير من تلك السياسات كانت مسؤولة عن إرسائها تريزا ماي نفسها حين كانت وزيرة للداخلية في حكومة المحافظين قبل أن تصبح رئيسة للوزراء، بعد استقالة ديفيد كاميرون.

فالسياسات التي صارت تعرف باسم سياسة «البيئة المعادية»، كانت تقوم على فكرة محددة مؤداها ضرورة إيجاد أجواء عامة معادية للهجرة عموماً وغير الشرعية على وجه الخصوص عبر منظومة متكاملة طالبت كل مؤسسات الدولة بل وغيرها من المؤسسات الخاصة مثل أصحاب العقارات والمستشفيات، بضرورة التأكد من أن الشخص متلقي الخدمة موجود في البلاد بشكل قانوني.

ومن الجدير بالذكر أن وزارة الداخلية البريطانية، حين كانت ماي مسؤولة عنها، قامت أيضاً بتسيير سيارات تابعة للوزارة تجوب الشوارع في الأحياء التي يقطنها المهاجرون وتوجه حديثها للمهاجرين غير الشرعيين قائلة «عودوا لبلادكم أو سيتم القبض عليكم».

وقد أثرت تلك السياسات بشكل سلبي على مقدرات «جيل ويندراش». فقد ثبت أن خمسين ألفاً منهم على الأقل ليست معهم أية وثائق تثبت أنهم من أولئك الذين حضروا بدعوة بريطانية صريحة بعد الحرب العالمية الثانية.

صحيح أن تشريعات صدرت منحت أولئك المهاجرين وضعاً قانونياً إلا أن أياً من الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تكلف نفسها عناء اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسجيلهم. ثم أن الكثيرين منهم لم يحملوا وقت قدومهم أية وثيقة، إذ جاءوا أطفالاً مثبتين في جوازات سفر آبائهم.

وظل التوثيق الوحيد الذي يثبت وجودهم القانوني هو أوراق وصولهم للأراضي البريطانية التي تمتلكها الحكومة. لكن تلك الأوراق كان قد تم إعدامها في 2010 حين كانت تريزا ماي نفسها وزيرة للداخلية.

وعلى ذلك، صار هؤلاء الذين وصلوا لبريطانيا صغارا ولا يعرفون لأنفسهم بلداً سواها، يواجهون ليس فقط الطرد من البلاد أو الاعتقال، وإنما الموت مرضاً لحرمانهم من الرعاية الصحية أو التشرد إذا ما أرادوا سكناً لأنهم عاجزون عن تقديم الوثائق اللازمة.

وكانت صحيفة الغارديان قد ألقت الضوء على حالة رجل عاجز عن تلقي العلاج من مرض السرطان لأنه لا يملك تلك الوثائق، وحالة سيدات مسنات تم إلقاء القبض عليهن تمهيداً لترحيلهن لأنهن عاجزات عن إثبات أنهم من جيل الويندراش.

وبعدما تفجرت القضية بشكل كبير، وقفت الوزيرة الحالية للداخلية، أمبر راد، أمام البرلمان البريطاني، وقدمت اعتذاراً رسمياً عن المعاملة السيئة التي يتعرض لها هذا الجيل وتعهدت بمنع ترحيلهم.

غير أن تنفيذ الوزيرة لتعهدها صار صعباً للغاية. فما لم يتم إيقاف برامج سياسة «الأجواء المعادية» التي تنتهجها حكومة المحافظين، سيستحيل التمييز بين «جيل ويندراش» وغيرهم لأن الوزارة لم تعد تملك توثيقاً بعد أن أعدمت أوراق وصولهم.

وتطورات القضية تذهب اليوم إلى ما وراء الحدود البريطانية. فهي باتت تجعل من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي مسألة أكثر صعوبة. فهناك أكثر من 3 ملايين من مواطني دول الاتحاد الأوروبي يعيشون بالمملكة المتحدة. وكانت الحكومة البريطانية، قد أكدت في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي أن بإمكانهم التقدم بطلبات للبقاء فيها بشكل قانوني داخل بريطانيا بعد خروج بريطانيا بموجب البريكست.

لكن الاتحاد الأوروبي، بعد واقعة «جيل ويندراش» صار أكثر قلقاً إزاء مصير هؤلاء. فإذا كان ذلك هو مصير الجيل الذي أسهم في بناء بريطانيا الحديثة، فما هو مصير من أسهموا بدرجات أقل في اقتصادها.

السؤال المهم الذي صار يطرح نفسه في كل ذلك، يتعلق بما إذا كانت معاملة الأوروبيين في بريطانيا ستكون أفضل من أولئك الذين أسهموا في بنائها من أبناء الكاريبي، أصحاب البشرة السوداء.

 

 

Email