«يوماً أو بعض يوم»

ت + ت - الحجم الطبيعي

شغفت دوماً بقراءة المذكرات، سواء أكانت سياسية أم أدبية أم فنية، ففي كل منها خبرة نتعلمها ونحتذي بها، أو نتجنبها في مجرى الحياة، وبها كذلك تجربة حياة تلقي الضوء على كاتبها من جانب، وعلى العصر الذي ظهر وعاش فيه من جانب آخر.

وقد تمنحك متعة بصرية إذا احتوت على أوصاف وصور تعكس روح هذا العصر وملابسه وطرزه المعمارية، وشوارعه، وفنونه وثقافته ومعظم الظواهر الاجتماعية التي تميزه.

والمذكرات السياسية تمكن قارئها من إلقاء الضوء على حوادث سياسية لم يكن من معاصريها، وتكشف خبايا بعض وقائعها، وتفسرها له برؤية مؤلفها، لا سيما إذا كان شاهد عيان على أحداثها، أو تمنح الفرصة للباحث أو المؤرخ كي يقدم تفسيراً جديداً لها، غاب عن المؤلف بحكم معاصرته للحدث، إذ أن المؤرخين عادة ما يصفون «المعاصرة» بأنها حجاب، لأنها تفقد الرؤية للحدث آنئذ بعض موضوعيتها وبعض شمولها، بما يضفيه عليها شاهد العيان من مشاعر التعاطف أو الرفض أو الحياد.

وسوف تكون محظوظاً مثلي، إذا ما انطوت المذكرات التي تقرأها على شيء من كل هذا مرة واحدة، وهذا بالضبط ما تأكد لي بعد الانتهاء من القراءة، والوصول إلى طي الصفحة الأخيرة من مذكرات الكاتب الصحافي والمؤلف المسرحي محمد سلماوي، التي صدرت قبل أسابيع عدة في القاهرة عن دار «كرمة» للطباعة والنشر.

توقفت طويلاً أمام عنوان المذكرات: «يوماً أو بعض يوم»، وهو عنوان يحمل كنايات ودلالات جمالية وفلسفية، ويحيل إلى الآية الكريمة «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، قال إن لبثتم إلا قليلا».

ولعل المؤلف يرمي من اختياره لعنوان مذكراته إلى القول إن الحياة قصيرة الأجل سريعة الزوال، مهما طالت ومهما أقمنا بها، أو لعله يصف رحلته الثرية في الحياة بعد بلوغه السبعين، بأنها لم تكن سوى مجرد يوم أو بعض يوم.

تكتسب مذكرات محمد سلماوي أهميتها من أنها شهادة مثقف على عهدي جمال عبد الناصر وأنور السادات بما شابهما من نجاحات وانكسارات، وبما أتاحاه من مساحات للحريات السياسية والاجتماعية وحريات الرأي والتعبير التي سادت في ظل حكميهما.

فقد شب سلماوي ونما وتعلم ودرس وعمل أستاذا في الجامعة وكاتباً وصحافياً في عهد ثورة 23 يوليو 1952 من مواليد مايو 1945- وانتمى لأسرة من ملاك الأراضي ومن الأثرياء، الذين صادرت الثورة أراضيهم وأملاكهم في عهود التمصير والتأميم.

لكن ذلك لم يقف حائط سد بينه وبين أن يكون ناصرياً مؤيداً للفكر القومي ومؤمناً بمبادئ العدالة الاجتماعية، وهي المبادئ التي أرستها التجربة الناصرية، وانقلب عليها الرئيس السادات، وقادته معارضته لسياسات السادات إلى السجن متهماً بالمشاركة في التحريض على مظاهرات الخبز في عام 1977، حيث قامت بزيارته متخفية، ابنة الزعيم هدى جمال عبد الناصر.

والمذكرات كذلك تتسم بقدر عالٍ من الشجاعة التي تتوارى غالباً في معظم السير الذاتية العربية، فلا يخفي الكاتب علاقاته الغرامية في فترة دراسته للمسرح في بريطانيا، ولا يخشى من نقد قسوة والده في التعامل مع الحيوانات الأليفة، والإشارة إلى نزواته التي طالما أغضبت والدته وأغابت عنها الابتسامة والحبور، وبدت في كل الصور المنشورة لها بالكتاب، حزينة مثقلة بالأحمال.

كما هي تحفل أيضاً، بإعلاء قيمة الإرادة الإنسانية، عندما تبين غوص المؤلف في ذاته، ومواجهته لنزوعه نحو الوحدة والانزواء في طفولته لغياب والديه بالسفر الدائم، وامتلاك القدرة على التصدي لعزلته في شبابه ورجولته، وتحدى تقاليد بالية للأسر البورجوازية الكبيرة التي تتمسك بالشكليات ولا تلقي بالاً للعواطف والمشاعر الإنسانية، بتصميمه على الزواج من المرأة التي أحبها وبدعمها ومآزرتها، وهي من أضحت فيما بعد الفنانة التشكيلية الكبيرة نازلي مدكور.

تكشف المذكرات عن أن الذائقة الفنية الراقية التي تشكلت لدى محمد سلماوي التي تبدت في كتاباته الصحافية، لم تكن وليدة للدراسة فحسب، بل هي مزيج بين الدراسة والاهتمام المتواصل بفنون الموسيقى والسينما والغناء والفن التشكيلي، والاهتمام بالمنتج الثقافي بمعناه الشامل، وكان كل ذلك هو ما أوصله للكتابة القصصية والمسرحية، ومهد له النجاح في المواقع الثقافية التي تقلدها، وكان آخرها موقعه رئيساً لاتحاد الأدباء العرب.

«يوماً أو بعض يوم» رحلة مبهرة بين العصرين الملكي والجمهوري تمتلئ بالصدق والدفء، وتبعث على التقدير والحب والاحترام، ولأنها توقفت عند بدايات عصر الرئيس مبارك، فلعلها تكون قد تركت الباب موارباً على أجزاء أخرى من سيرة مثقف وسيرة وطن.

 

 

Email