اقتصادات الاحتلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

أدبيات القضية الفلسطينية الموصولة بحقبة الاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزة منذ العام 1967، مشبعة بالروايات والحقائق، التي تغلب عليها المضامين والمحاججات التاريخية والسياسية والحقوقية القانونية.

في غمرة الانشغال بهذه المناظرات والقعقعات الصاخبة ومظاهر الاشتباكات الميدانية الدامية، لفتت بعض الأصوات الفلسطينية الانتباه إلى أن احتلال فلسطين في حدود 1967، يمثل مشروعاً اقتصادياً مربحاً لإسرائيل. وبمرور الوقت، انتشرت دعوات تفكيك أسس السيطرة الاقتصادية والمالية على الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية، ولا سيما من خلال ما يعرف باتفاق باريس لعام 1994، الذي عمق تبعية الفلسطينيين لإسرائيل، ووصلت خسائرهم في إطاره إلى زهاء 9.5 مليارات دولار سنوياً.

من بين ما قيل بهذا الصدد، إن هذه الخسائر تعود إلى تحكم إسرائيل في المعابر والموانئ ومجالات الطاقة والكهرباء ومصادر المياه، وعدم إدخال المواد الخام اللازمة للصناعات الفلسطينية، وفرض ضرائب باهظة على واردات الفلسطينيين، واستباحة إسرائيل لأسواقهم وربط الأسعار فيها بالمعدلات الإسرائيلية على الرغم من تفاوت الدخول، التي لا تزيد متوسطاتها في الضفة وغزة على 1500 دولار سنوياً فيما تبلغ في إسرائيل نحو 19000 دولار.

هذا دون الحديث عن استغلال إسرائيل عنوة لموارد الفلسطينيين في البر والبحر، واستخدام آليات جهنمية لحرمانهم من التنمية الاقتصادية الذاتية على كل الصعد.

في كل حال، يطول الحديث عن الانعكاسات الكارثية للاحتلال على الاقتصادات الفلسطينية، لكن المدهش حقاً ما يقال عن أن هذا الاحتلال يؤثر في الوقت ذاته سلباً على الجانب الإسرائيلي، مسبباً له خسائر فادحة.

يهتم بهذا التصور ويدافع عنه راهناً، محللون وخبراء اقتصاديون إسرائيليون، مثل شير هيفير من مركز المعلومات البديلة في القدس وشلومو سويرسكي المدير الأكاديمي لمركز ادفا لتحليل الاتجاهات والسياسات في تل أبيب.

ويجمع هؤلاء ومدرستهم المخالفة للسائد، على أن احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967 لا يمثل أية فائدة لإسرائيل، وأن «فلسطين هوة لا قرار لها من الناحية المالية. ورغم تجاهل هذه المسألة، إلا أن التكلفة الاقتصادية للاحتلال سوف تضعف إسرائيل إن لم تغير مسارها كلياً».

التأمل في حيثيات هذا التقدير يضيق حجم الشكوك في صدقيته: «الاحتلال حرم إسرائيل من فرص استثمارية كثيرة، وأدى إلى انخفاض الرفاهة الاجتماعية لمواطنيها، ومن المستحيل، مثلاً، التفريق بين تكلفة المستوطنات وتكلفة الاحتلال ذاته، فالنقاط والقواعد العسكرية التي أنشئت للدفاع عن المستوطنات وإخضاع الفلسطينيين، تكلف ثمناً باهظاً لحمايتها وتأمينها، والتوسع الاستيطاني يقتضي تقديم تسهيلات لتشجيع المستوطنين، كالقروض طويلة الأجل وحوافز الاستثمار الزراعي والصناعي والتجاري، والمساعدات المالية للبناء والسكن وشق الطرق وحمايتها، والتفضيلات في الرعاية الصحية ودعم المدارس وتوفير المياه العذبة بحوافز أعلى بكثير مما هو متاح للمواطنين العاديين».

ويندرج في باب الأعباء التي تفرضها ديمومة الاحتلال، النفقات المخصصة للجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، المنوط بها احتواء المقاومة الفلسطينية والأصوات المعارضة داخل الدولة. وجدير بالملاحظة بهذا الخصوص أن النفقات العسكرية المفروزة لهذه البنود تعمل بشكل بالغ السرية بذريعة الحفاظ على الأمن القومي، حتى إن بعض الوزراء لا يمكنهم الاطلاع على الأرقام الفعلية ذات الصلة.

من المساجلات والتفصيلات المرتبطة بهذه القناعة، نتيقن أكثر فأكثر بأن المساعدات الخارجية الأميركية الرسمية والصهيونية واليهودية غير الرسمية، هي الركيزة الأساسية لتحمل الأعباء الثقيلة للاحتلال. وإذا ما أثير، جدلاً، السؤال عما يؤدى لاستمرار هذا الوضع المشؤوم؟ وجدنا أن كلمة السر تتعلق بدائرة من المستفيدين، التي يقع في القلب منها المستوطنون وأشياعهم، وضباط الجيش ورجال الصناعة والتجارة العسكرية.

نحن هنا عموماً إزاء طرح فلسطيني وآخر إسرائيلي، يستهديان بالمنطق الجاف، الذي تعنيه التحليلات الاقتصادية بلغة الأرقام.. وهما يلتقيان دون اتفاق على ان الاحتلال يوقع بالفلسطينيين وبمعظم الإسرائيليين في لجة من الخسائر. ولأن إسرائيل لا تزال تصر على استمرار هذا المشهد على الرغم من لا جدواه الاقتصادية، فإن هذا المنطق يبدو غريباً ومثيراً للخيال، لكنه لا يكفي وحده مطلقاً لتعيين مستقبل الصراع بين الطرفين.

 

 

Email