رحل ستيفن هوكينغ.. إشعاعاته باقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين وضع ألبرت آينشتاين النظرية النسبية العامة عام 1915 في قطيعة تامة مع نيوتن ونظريته عن الجاذبية، باشر بوضع هندسة جديدة للكون، فالنسيج الفضا - زماني الذي افترضه والذي تسبح فيه جميع المجرات والنجوم والكواكب والأقمار ليس مسطحاً بل تعتوره الإنحناءات هنا أو هناك بدرجات متفاوتة حسب وجود الأجسام المادية ومقدار كتلاتها. إلا أن هذه الإنحناءات في العالم الذي نعيش فيه ضعيفة جداً لا تترك آثاراً ملموسة يمكن رصدها لذلك يبدو هذا النسيج مسطحاً.

إلا أن دراسة الكون الأبعد قد كشفت عن حقائق لم يكن لآينشتاين نفسه أن يتصورها، إحداها إمكانية انهيار النجوم تحت تأثير جاذبيتها الذاتية محدثة انحناءات شديدة الإلتفاف بالنسيج الفضا - زماني إلى الدرجة التي تنغلق فيها على نفسها وتعزل النجوم عن الكون فتصبح «ثقوباً سوداء».

آينشتاين شخصياً لم يكن يعتقد أن انهياراً كهذا يمكن أن يحدث إلا أن آخرين برهنوا على أن ذلك هو الإستنتاج الذي لا مفر منه في ضوء النظرية النسبية نفسها. التنبؤ بوجود هذه الثقوب استناداً إلى هذه النظرية والكشف عن حقيقة وجودها برصد الموجات الجاذبية الذي تحقق مؤخراً دليل قوي جدا عن مدى قوتها ودقتها.

وُضع مفهوم «الثقب الأسود» عام 1930 من قبل العالم الأمريكي الهندي الأصل «سابرامانين تشاندراسخار» الحاصل مع ويليام فاولر على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1983 عن عملهما في نظرية بناء وتطور النجوم، وُضع في ضوء استنتاجه على أسس النظرية النسبية العامة بأنه إذا بلغت كتلة نجم ما مقداراً حرجاً فإنه ينهار تحت تأثير جاذبيته ليتحول في المرحلة الأخيرة من عمره إلى ثقب أسود بتلاشي حجمه الكبير جداً ليتحول إلى جسم صغير جداً هائل الكثافة، فهناك ثقوب سوداء لها كتلات مختلفة تصل بعضها إلى ملايين وربما مليارات المرات قدر كتلة الشمس.

المدخل المهم الذي ولجه ستيفن هوكينغ في مجال الثقوب السوداء هو البرهنة نظرياً على أنها ليست سوداء بالكامل، فقد وضع نظرية توضح كيف يمكن أن تشع الثقوب السوداء نوعاً من الوهج وهو ما يعرف ب«إشعاع هوكينغ»، هذه النظرية الآن مقبولة علي نطاق واسع في أوساط الفيزياء النظرية.

والحقيقة أن فتح ثغرة في جدار هذا العالم الغامض، عالم الثقوب السوداء الذي يبدأ بانهيار الوحدة الأساسية لبناء المادة وهي الذرة، لا يمكن الولوج إليه إلا من خلال الميكانيك الكوانتي الذي نشأ مع الثورة العلمية مطلع القرن العشرين وهو المدخل الذي افترضه ستيفن هوكينغ للكشف عن الجاذبية الكوانتية.

لذلك وفرت الثقوب السوداء لأول مرة وسطاً يمكن أن يدرس بالنظريتين معاً، النظرية النسبية التي تتعامل مع ما هو كبير جداً جداً أي ما يتعلق بالظواهر على المستوى الكوني وبين الميكانيك الكوانتي الذي يتعامل مع ما هو صغير جدا جدا أي بما يتعلق بالظواهر على المستوى الذري وما دونه.

الهدف هو البحث عن أسس التوحيد بين هاتين النظريتين في إطار نظري واحد يفسر كل شيء، إلا أن العلماء ليس لديهم فهم كاف حول قدرة النظرية الكوانتية التي تتعامل مع العالم اللامتناهي الصغر على تفسير ظاهرة الجاذبية، فقد قدم هوكينغ لهم بإشعاعاته دليلاً محيراً!.

النظريات العظيمة في الفيزياء مثل الأعمال الفنية العظيمة في الرسم أو النحت أو الموسيقى، إنجاز إنساني متميز بسماته الجمالية التي تستوقف من يتأمله فهو لا يحتاج إلى التفهم التام له من أجل تقدير عظمته وأهميته بل يكفي التعرف على أبعاده التي تتغلغل بعمق لتنير البصائر. نظريات التوحيد بين قوى الطبيعة في الفيزياء هي بين الأكبر والأكثر تعقيداً ربما في جميع العلوم، أنها تقف كروائع لا تضاهى في معارض الفكر الحديث.

والحقيقة أن المسعى نحو نظرية لكل شيء ليس جديداً، فقد راود كبار علماء الفيزياء النظرية حلم إيجاد صيغة لدمج قوى الطبيعة الأربعة، الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة، في إطار يرجعها إلى مصدر واحد.

رحل ستيفن هوكينغ إلا أن إشعاعات ثقوبه السوداء باقية، وإشعاعات فكره النير هي الأخرى باقية تطرح أسئلة كبيرة عن ألغاز الطبيعة غير الملموسة، الثقوب السوداء أو المادة المظلمة أو غيرها، داعية كبار علماء الفيزياء النظرية للخوض في مسالكها الشديدة الوعورة.

* كاتب عراقي

Email