سلاميون ولكن..

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل القوى التي صكت التاريخ الأسود لاستعمار الآخرين واستعبادهم تحت مزاعم مختلفة، لم تعدم وجود أصوات داخلها كانت تغرد خارج السرب، محفوزة بضمائر مشبعة بالروح الإنسانية الحقة.

معظم أصحاب هذه الأصوات تعرضوا في أزمنتهم للعنت والتعتيم والسخرية، وأحيانا للتشويه ومحاولات الاغتيال المعنوي وتهم المروق والهرطقة، لكن أفكارهم ساهمت في إحداث التغيير الحقوقي الإيجابي لدى الرأي العام في بلادهم، وردفت حركات التحرر في المستعمرات بقوة مضافة.

في ظاهر الحال، يبدو النموذج الإسرائيلي الاستعماري وكأنه ليس بدعا من هذه الحقيقة. فللوهلة الأولى يمكن العثور على رموز فكرية وأكاديمية وسياسية وصحفية، تعزف بشكل منفرد أو جماعي منظم على أوتار الاستقامة القانونية والعدل، وتعترف بظلامة الفلسطينيين وبضرورة الاستجابة لبعض مطالبهم، وتحذر من انحدار الصهيونية ودولتها إلى الدرك الأسفل من العنصرية وسياسات الأبارتيد.

على الرغم من هذه المواقف والمداخلات، فان النظرة المعمقة في مجمل خطاب هؤلاء القوم، توحي بعدم إدراجهم تلقائيا وبدون تدبر أو شكوك وتحريات تفصيلية، في زمرة أعداء الصهيونية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني.

قبل زهاء عقدين خرجت علينا جماعة من أطلق عليهم المؤرخين الجدد؛ أولئك الذين استقبلهم أنصار القضية الفلسطينية بحفاوة، بحسبهم فضحوا زيف الرواية الصهيونية حول ماجرى في غضون سنوات النشأة الأولى لإسرائيل، ولكن ما إن اندلعت الانتفاضة الثانية حتى نكس معظمهم على أعقابهم وابتلعوا ألسنتهم واصطفوا خلف قيادتهم، مبررين إجرامها. أطروحات المؤرخين الجدد وشروحهم كانت، وربما مازالت، من أكثر الظواهر المثيرة للجدل .

ومع ذلك، فان الحاوي الصهيوني ابتكر أخيرا ما هو أشد إثارة وسحرا للأعين والعقول. يمثل لهذا الجديد الفارق شديد التعقيد، الفكرة التي يعرضها الناشط الإسرائيلي ديمتري شومسكي( هآرتس 12/‏3/‏2108)..وموجزها أن «الحقوق السياسية لليهود في أرض إسرائيل ليس مصدرها الماضي الديني القديم، بل أولا وقبل كل شيء في استمرار وجود اليهود الشرقيين وطوائفهم في الفضاء العربي الإسلامي الشرق أوسطي لمئات السنين. فالشعب اليهودي ليس نبتة غريبة بل هو من شعوب المنطقة المحلية الأصيلة. وهذا يمنحه الحق في تقرير المصير باعتباره جزءا من الحي الشرقي الواسع. وهكذا فان أرض إسرائيل تعود له وللعرب».

شومسكي من المحسوبين بقوة على معسكر السلام الإسرائيلي والانحياز لحل الدولتين. لكنه بهذا العرض المتحذلق يرفع لدينا حساسية الحذر من خلط الزيت بالماء، ومن الأفكار الملغومة والملغزة لبعض السلاميين الإسرائيليين.

فظاهر العرض فيه الرحمة، لاعترافه بحقوق الشعب الفلسطيني. غير انه في العمق ينطوي على مطبات وسقطات جسيمة تاريخيا واجتماعيا وسياسيا. فمقولة أن اليهود الشرقيين جزء من أبناء العالم العربي الإسلامي صحيحة. وللإنصاف كان عرب فلسطين سباقين إلى هذا التصور، ومبادرين إلى فكرة المواطنة الجامعة التي ينخرط تحت لوائها كل العرب الفلسطينيين الأصليين، المسلمين والمسيحيين واليهود.

وهذا يعني، الإقرار بحق العرب اليهود في المواطنة المتساوية، كل في إقليمه وموطنه، وليس لملمة هذا القطاع السكاني من مختلف الأقاليم العربية وحشره في فلسطين، بزعم مشرقيته و انه «يحق له ما يحق لغيره من شعوب المنطقة».

نود القول بأن شومسكي ومدرسته ينطلقون من اعتبار الهوية الدينية محددا جوهريا لمفهوم الهوية السياسية. وإذا مضينا مع هذه الفلسفة إلى منتهاها، وجدناها تتفق في التحليل الأخير مع الفكرة الصهيونية الأم، التي تقدم «اليهودية» كمسوغ لقيام الكيانية السياسية. كل ما في الأمر أن الرجل يدفع بوجود صهيونية مشرقية، محاولا تنسيب الأبعاد الإجرامية الي سلوكيات الصهيونية الغربية (الأشكنازية).

والرأي أنه لا أحقية لليهود، حتى وان كانوا مشرقيين، في الاستيلاء على فلسطين، تماما كما هو الشأن مع اليهود الذين تقاطروا إليها من عالم الغرب.

ورب مجادل بأن هذا الرفض لاحق لأوانه، وأنه يكفينا من شومسكي وصحبه، أنهم يقرون بأن الصهيونية الإشكنازية الغربية أفسدت على المشرقيين اليهود والعرب حيواتهم؛ ولكن المطلوب منهم الاعتراف أيضا، ولو نظريا، بأن المشرقيين اليهود لا يحق لهم ولا يجوز التجمع في فلسطين، واستقطاعها لأنفسهم دون سائر الأصقاع والأحياء في هذا العالم الفسيح.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email