أنا مش نسوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أعول على صداقة رحلة عمل خارجية جمعتنا معاً قبل سنوات، وعلى ما يقدمه تهذيبها من تشجيع، حين تجاسرت وقلت لمنظمة الندوة التي استضافتني للحديث عن حقوق المرأة بمناسبة يومها العالمي: أنا مش نسوية..

وأن تقول ذلك في وجه امرأة نسوية متشددة، فعليك أن تتحمل العواقب. تحول الاستقبال الحار الذي لقيتني به، والترحيب الناعم المفعم بالمحبة والاحترام، إلى توتر في الأجواء، وتقطيب في قسمات الوجه، وخشونة في النظرات، وردت قائلة بتحفز: يعني أيه مش نسوية..هه..يعني أيه؟!

بدا لي أن لسان حالها يكاد يقول لي، «قومي روحي مفيش ندوة» لولا أن الأمر كان قد خرج من يدها، فقد كنا نجلس على المنصة قبيل دقائق من بدء أعمال الندوة.

وكان إعجابي بالجمهور المختلط من الرجال والنساء، فضلا عن حديثها بفخر عن نضالها النسوي في منظمات المجتمع المدني، هو ما قاد كلينا لهذا السجال الحاد، الذي يعكس التباين في الرؤي بين الفضاءين اللذين تعمل كل منا من داخله: فضاء العمل بأجر داخل المنظمات الحقوقية النسوية التي تكرس للعمل الفردي وتفتح أحياناً مجالاً واسعاً للصعود الاجتماعي، وهو عمل لم يكن بريئاً ومنزهاً عن الغرض طوال الوقت في منطقتنا العربية، لاسيما خلال العقدين الأخيرين، وفضاء العمل الحزبي الطوعي الذي يقوم على فكرة العمل الجماعي.

وفي الفضاء الثاني علمتني السياسة أن النضال لرفع الظلم التاريخي عن المرأة، الذي قرنها بالغواية والاستهلاك، وسجنها في أسوار طبيعتها الخالدة غير القابلة للتغير، لتبرير حرمانها من الحق في المساواة، ليس صراعاً ضد الرجل، بل هو كفاح مشترك للمستنيرين من الرجال والنساء لإسقاط كل المظالم من كل لون ونوع. ليس فقط لأن مفكرين من الرجال من أمثال رفاعة الطهطاوي.

ومحمد عبده وقاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين والطاهر الحداد، كانوا في طليعة الحركة الاصلاحية المنادية بتحرير المرأة وإسقاط قيودها، ومنحها الحق في التعلم والعمل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بل أيضا لأن قضايا حقوق المرأة أكثر تشابكاً وتعقيداً من مجرد حصرها في صراع ملفق ومفتعل وضار مع الرجال يسطح الوعي.

ويجلب أعداء من الرجال والنساء، بدلاً من أن يحشدهم لنيل تلك الحقوق، فضلاً عن أن هذا السياق يخرج قضية الدفاع عن حقوق المرأة من الطريق المستقيم الذي تستعيد فيه المرأة الثقة بالنفس، وتفرض إرادتها على اختياراتها الحياتية، وتمتلك مصيرها وقدرتها على السيطرة عليه، مع الأخذ بالاعتبار أن مكانة المرأة في المجتمع، تحددها كذلك المرأة، في الطريقة التي تنظر بها إلى نفسها، وترى بها أدوارها في الحياة.

ولا ريب أن مثل هذا الطريق سوف يتعثر إذا ما بقيت الحركة النسوية تفسر العالم باعتباره صراعاً بين الرجل والمرأة، ونزوعاً من الرجال للسيطرة على النساء، وشيوع المجتمع الأبوي الذي يقهر النساء ويخضعهن قسراً لسلطة الرجال،.

وأن النساء بتن محجوبات عن التاريخ لأن من يكتبه هم الرجال، وغير ذلك من أفكار قد يكون بعضها صحيحاً، لكنها لا تمتلك القدرة على تغيير الواقع، لأخذها بعيداً عن سياق أشمل ينظر إليها في إطار الصراع الاجتماعي السلمي، الذي يفسح المجال للتغير الثقافي والفكري والاقتصادي والسياسي.

بما يقود بلداننا إلى تنفيذ ما وقعت عليه من معاهدات ومواثيق مبادئ حقوق الإنسان الدولية، التي تحفظ حقوق المواطنة وتقر ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات في ظل الدولة المدنية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي توفر لها ولأبنائها مجالاً للعيش الكريم.

في نهاية الندوة قلت: إن الحكومات قد تكون أحياناً أكثر تقدمية من مجتمعاتها التي تناوئ اجراءاتها لتحرير المرأة تشريعياً، وتمكينها اقتصادياً وسياسياً، وإنني لست محايدة فيما يتعلق بطمس حقوق النساء وتهميشهن، لكنني موضوعية في طريقة الدفاع عنها، والدعوة لإبعاد المطالبة بتلك الحقوق عن المزايدات الدينية والسياسية التي تضفي على تقاليد محافظة طابع القدسية.

والتخلي عن السخافات التي تقرنها بمناصبة الرجال العداء، وامتلاك الشجاعة لمراجعة الخطاب النسوي المتطرف الذي ينطوي على تقلب غير مفهوم في المواقف، ويغرد كثيراً خارج الواقع ويتعالى عليه، ولا يحرر المرأة، بل يكثر من أعداء قضيتها.

* رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية

Email