ناصر في الذكرى المئوية لميلاده

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يزال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر محط اهتمام ونقاش في الأدبيات السياسية والإعلامية. فهناك كثير من الدراسات العربية والأجنبية والتي تتناول سيرة هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغلها في فترة تعتبر وجيزة نسبياً منذ أن تولى مقاليد الحكم في 1954، بعد أن أزاح الرئيس محمد نجيب، إلى وفاته في العام 1970، عن عمر ناهز 52 عاماً.

وتعتبر هذه السنة 2018 هي مئوية ميلاد الزعيم الذي حظي بشعبية جماهيرية على امتداد العالم العربي من مغربه إلى مشرقه. ومن الإنصاف القول بأن هذه الشعبية لم تكن مصطنعة بل حقيقية وتعبر عن حب جماهيري كبير داخل مصر والوطن العربي بوجه عام. وقد سمعت أحد الأساتذة الأميركان يعلق مرة عن الفرق بين صدام حسين وجمال عبد الناصر، وكان ذلك ابان احتلال العراق للكويت، أن محبي عبد الناصر كانوا مستعدين للعيش تحت حكمه، بينما المعجبين بصدام لم يكن لهم رغبة في العيش تحت سطوته.

وترجع شعبية عبد الناصر إلى عدة عوامل أهمها رزوح معظم بلدان العالم العربي تحت نير الاستعمار أو النفوذ الأجنبي، وقد مثلت شخصية عبد الناصر آمال وطموح الملايين من الشعوب العربية في الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية، وقد اكتسب عبد الناصر رمزياً وفعلياً في كثير من الحالات وجه الاستقلال واندحار الاستعمار، وخاصة بعد العدوان الثلاثي في العام 1956.

أما العامل الثاني فيعود إلى أن العالم كان يموج بحركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. فقد أصبحت كلمة استعمار خلافاً لمعناها الحرفي رديفاً للاستعباد البغيض، وأصبحت مقاومة الاستعمار مطلباً وطنياً تدعمه الشرعية الدولية، بل إن الأمم المتحدة أنشأت لجنة لتصفية الاستعمار، وقد نتج عن كل هذا استقلال كثير من البلدان في أفريقيا والعالم العربي وآسيا.

وكان الرئيس عبد الناصر من أبرز قادة دول العالم الثالث ودول عدم الانحياز والتي لم تنفك من المناداة بحقوق الدول النامية السياسية والاقتصادية في العالم. واضطلاع عبد الناصر بهذا الدور منحه موقعاً رائداً وقيادياً في المنطقة والعالم، ولعلها كانت سبباً في السعي للقضاء عليه من قبل الدول التي تضررت من سلوك ونهج الرئيس الراحل.

والعامل الثالث الذي أعطى للرئيس عبد الناصر زخمه السياسي وشعبيته الجارفة فيعود إلى شخصيته الكاريزماتية، وهذا المفهوم صعب ضبطه بواقعية أو موضوعية، لأن أساس الشخصية الكارزماتية هي معايير ذاتية تتعلق بوجدان الشعب تجاه قائد ما. فعلى سبيل المثال لو وجد عبد الناصر في سياق جغرافي وتاريخي مختلف هل سيكون له نفس الجاذبية ونفس الشعبية المدرارة؟

ليس من السهل الإجابة عن السؤال اللهم القول بأنه كانت هناك قيادات في العالم العربي وفي نفس السياق التاريخي والجغرافي ولم يكن لها ذلك الهالة التي تمتع بها الزعيم الراحل. ولكن من المهم أن نتذكر أن ما جعل عبد الناصر قائداً فذاً مبهراً تعلقت به الجماهير هي مجموع العوامل الثلاثة والتي ذكرناها آنفاً.

وقد كان لتأثيره الواسع على العالم النامي والعربي خاصة ردود فعل سلبية من قوى رأت فيه تهديداً لمصالحها، وقد بادر الأوروبيون ومعهم الإسرائيليون إلى التكالب على عبد الناصر وكانت حرب السويس. وقد رأت بريطانيا وفرنسا أن مسألة تأميم قناة السويس ليست تهديداً لمصالحهما المباشرة فحسب ولكن أيضاً تهديداً لمصالحهما في المناطق الأخرى من العالم. فقد بذلت بريطانيا ومعها الولايات المتحدة جهداً حثيثاً لإسقاط رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق على ما أقدم عليه من محاولة للسيطرة على المصادر النفطية لإيران في العام 1953، والخوف أن هذه ستكون سابقة خطيرة إذا ما سمح لها بالمرور.

ولكن الرئيس عبد الناصر خرج منها مظفراً من هذه المواجهة بسبب استياء الولايات المتحدة، إذ إنها لم تبارك المؤامرة ضد مصر، والسبب الثاني أن الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور شعر أن الدولتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، وإسرائيل يجب أن تلقن درساً حول من هو سيد العالم الآن، كما رأى ايزنهاور أن المتآمرين الثلاثة استغلوا ظروف إعادة انتخاب الرئيس وقاموا بعدوانهم، وأُجبر الإسرائيليون ومن خلفهم البريطانيين والفرنسيين على الانسحاب من السويس وسيناء. وكان هذا الانتصار السياسي الذي حققه عبد الناصر، وبعد فشل الوحدة مع سوريا في 1961، تغيرت الاستراتيجية: فبعد أن سعى عبد الناصر إلى وحدة الصف العربي غير التوجه إلى وحدة الهدف، ففي خطاب شهير في عيد الوحدة في 22/‏2/‏1962، أكد أن وحدة الهدف أهم من وحدة الصف، وبذلك دخل الرئيس في نزاع مع دول عربية كثيرة أفقدته كثيراً من توازنه وقيادته.

ونتيجة لذلك أرسل عبد الناصر القوات المصرية للمشاركة في حرب اليمن التي أدمت مصر واستنزفت كثيراً من مقدراتها. وعندما حانت المواجهة مع إسرائيل في يونيو 1967 كانت الفاجعة والتي لا يزال العالم العربي، والفلسطينيون بالذات، يعانون من تبعاتها، وعندما انتقل الرئيس إلى جوار ربه في 28 سبتمبر 1970، كان ذلك مجرد موت الجسد! ليظل عبد الناصر الشغل الشاغل للعرب والأجانب لأجيال كثيرة بين من يراه بطلاً قومياً وبين من يراه مغامراً أدخل العرب في أتون حروب لم يكن مستعداً لها.

كاتب وأكاديمي

Email