تهويد القدس.. المال في الخندق

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما عدنا نعرف على وجه الدقة، عدد القرارات الصادرة عن أعلى مقامات صنع قرارات النظام الرسمي العربي، بخصوص رصد المال لدعم مقاومة سياسات تهويد القدس. وفي السياق ذاته، قد يصح الاعتقاد بصعوبة الوقوف على عدد الصناديق والمحافظ والأوقاف المالية الأهلية المحسوبة على الغرض ذاته. لكن المؤكد، أن التدبّر الواعي في حقيقة الأحوال التي تمر بها هذه القرارات والصناديق وأمثالها، يشي بفجوة واسعة بين النظرية والمأمول، وبين الواقع والتطبيق.

موجز هذه الحقيقة، هو المعاناة من شح المخصصات والموارد المالية اللازمة لانتشال زهرة المدائن، بحيثية فاعلة بقوة، من أنياب وحش الاستيطان والتهويد الزاحف نحو قلبها وضواحيها، آناء الليل وأطراف النهار.

في لحظات الصدق مع النفس، يبوح بعض كبار المسؤولين السياسيين من الفلسطينيين والعرب، بما في صدورهم، حول هذه الحالة البائسة. روى أحدهم في واحدة من همساته الساخطة، أن حجم الأموال التي تدفقت لصندوق الأقصى منذ إنشائه قبل ثمانية عشر عاماً، لا تتناسب بالمطلق مع القرارات ذات الصلة، المتخذة من لدن اللقاءات العربية على مستوى القمة أو وزراء الخارجية.

مثل هذه الشهادة، تغذي الفكرة التي تتردد عن ضعف الدعم العربي المالي، مقارنة بالمدد المالي اللا مقطوع واللا ممنوع، الذي تتيحه عشرات المنظمات والدوائر الصهيونية خصيصاً، لتعزيز أنشطة الاستيطان بعامة، وجهود تهويد القدس وطمس معالمها الحضارية الأصلية بخاصة.

على جبهة توظيف المال في الصراع المحتدم بين التحدي الصهيوني لتهويد القدس، وبين محاولة الاستجابة له ومقاومته، هناك شيء من التماثل في عدد الأطر العاملة صهيونياً وعربياً، على خطوط التماس والاشتباك. لكن هذه الوضعية لا تعني التساوي في حجم الموارد، ولا في قدرات التحرك على أرض الواقع. الكفة هنا تميل كل الميل لصالح التهويد والمهودين.

يتجلى هذا التفاوت بصورة صارخة، حين نعلم بأن بعضاً من كبار رجال المال والأعمال الأميركيين المهووسين بالرواية الصهيونية، يتطوعون بتقديم هبات بمئات ملايين الدولارات، لأجل «التعجيل باستعادة مملكة داوود وهيكل سليمان على أنقاض الأقصى».

من هؤلاء، مثلاً، إيرفينغ موسكوفيتش، الذي خصص على مدار الأربعين عاماً الماضية، وأوقف قبل وفاته عام 2016، أموالاً طائلة لتحقيق طموحه في «استعادة القدس كاملة لليهود». وتعد هذه الأموال، المسؤول الرئيس عن أعمال الاستيطان التي تضطلع بها منظمة عطيرات كوهنيم (التاج الكهنوتي) منذ عام 1980، إلى ساعتنا هذه.

ومنهم أيضاً، الملياردير شيلدون أديلسون، الصديق الصدوق للرئيس دونالد ترامب، الذي ارتفعت عنده مؤخراً حمي تهويد القدس، إلى درجة إبداء الاستعداد «لتحمل جزء كبير من تكلفة نقل السفارة الأميركية للمدينة، وبما لا يقل عن نصف مليار دولار».

وعلى سبيل الاستطراد المفيد، يقال إن رؤى هذا الثري العجوز (84 عاماً)، لها فعل السحر في عقل ترامب، وأنه من القلائل المسموح لهم بدخول البيت الأبيض متي شاءوا، حتي ليصح الاعتقاد بأنه هو من أقنع الرئيس الأميركي بالاعتراف بالقدس بشقيها عاصمة لإسرائيل.

لا تعاني فعاليات الاستيلاء الصهيوني الإسرائيلي على القدس بالجملة والقطاعي، من أي ضنك مالي. وفور أن صب سيد البيت الأبيض مزيد الزيت على استفزاز كل المهمومين بفلسطينية القدس وعروبتها وإسلاميتها، بالإفصاح عن نقل سفارته إليها في منتصف مايو المقبل، حيث الذكري السبعين للنكبة الفلسطينية، انبري ممولون صهاينة ومتصهينون، يهوداً وغير يهود، لإعلان نيتهم في تحمل الأعباء المالية لهذا القرار. هذا بخلاف موقف الشهم أديلسون، الذي يريد الانفراد بهذا «الشرف» وحده.

يقيناً، لا يخلو عالم الغيورين على مكانة القدس الحضارية الأصيلة من القادرين، رسمياً وشعبياً، على منازلة رعاة سياسات استلابها وتهويدها في ساحة المال والاقتصاد. هذا إن عقدوا العزم وأخلصوا نية البذل والعطاء. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email