من عهدة عمر إلى قرارات نتنياهو

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تسلم عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس من البطريرك «صفرونيوس»، خطب في أهلها قائلاً: «يا أهل إيلياء، لكم ما لنا وعليكم ما علينا». ثم دعاه البطريرك لتفقد كنيسة القيامة، فلبى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فتلفت إلى البطريرك وقال له أين أصلى، فقال «مكانك صلِ» فقال: ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة، فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر، ويبنون عليه مسجداً. وابتعد عنها رمية بضعة أمتار، وفرش عباءته وصلى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على ذلك المكان مسجداً، المسمى بمسجد عمر.

وأعطى عمر أهل بيت المقدس، عهداً مكتوباً، سمي «العهدة العمرية»، أمنهم فيه على كنائسهم وممتلكاتهم، واشترط ألا يسكن أحد من اليهود معهم في المدينة. وقد اعتبرت العهدة العمرية، واحدة من أهم الوثائق في تاريخ القدس وفلسطين. وجاء في نص العهدة:

هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها.. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.

شهد على العهد المكتوب: خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.

هكذا ظل المسلمون أمينين على المقدسات المسيحية في القدس حتى اليوم، حيث الوصاية للهاشميين. وقد ترسخت في المدينة عبر قرون طويلة، مظاهر التسامح بين المسيحيين والمسلمين، ويتجلى هذا في أرفع صوره، بإشراف عائلتين مسلمتين على كنيسة القيامة، أعرق الكنائس المسيحية. فبينما تقوم عائلة نسيبة بفتح وغلق باب الكنيسة يومياً، تتولى عائلة جودة حفظ مفاتيحها. ويقول وجيه يعقوب نسيبة، الذي عُهد إليه بفتح وغلق الكنيسة، إن عائلته تسلمت مفاتيح الكنيسة من بطريرك القدس للروم الأرثوذكس «صفرونيوس» في عام 638 ميلادية، أي بعد أن فتحها المسلمون بقيادة عمر بن الخطاب. إلا أن المفاتيح نزعت من العائلة، عندما دخل الصليبيون مدينة القدس في عام 1099.

ويوضح نسيبة، الذي يتولى استقبال كبار الضيوف الزائرين للكنيسة، أن سبب تسليم مفاتيحها للمسلمين، يعود إلى خلاف ظهر بين الطوائف المسيحية، إبان تحرير صلاح الدين الأيوبي لمدينة القدس في عام 1187 ميلادية، حين قرر أن تحتفظ بمفتاح الكنيسة عائلة مسلمة، وقد تم ذلك بتوافق مع جميع الطوائف المسيحية آنذاك.

في نوفمبر 2016، عندما منع الاحتلال الأذان من مآذن المسجد الأقصى، وفرض غرامة على ذلك، رفع المسيحيون الأذان من كنائسهم، تحدياً للاحتلال، وتأكيداً على وحدة الشعب الفلسطيني.

وفي العام الماضي 2017، على أعتاب الأقصى، وقف مسيحيون يتلون الإنجيل، إلى جانب إخوتهم المسلمين، في صفوف لا تستطيع أن تفرق بينهم. مرددين شعار «نحن شعب واحد لا يقبل القسمة على اثنين».

ووسط حلقات المسلمين المرابطين أمام الأقصى، كنت تجد قبطياً يردد الإنجيل، وآخر يُمسك الصليب يرفعه في السماء، راجياً «نجاة الأقصى».

«إحنا شعب الجبارين والأقصى لكل الفلسطينيين»، بهذه الكلمات، أكد مينا عطا، أحد أقباط فلسطين، الذي ظل مرابطاً أمام المسجد منذ بداية الأزمة، بجوار جيرانه وأصدقائه المسلمين.

هذا هو حال العرب، مسلمين ومسيحيين، منذ عهدة عمر بن الخطاب إلى عهدنا، وتتشارك الطوائف المسيحية الشرقية والغربية، الصلاة والعبادة في كنيسة القيامة، التي بنيت فوق «الجلجلة»، وهي مكان الصخرة التي يعتقد المسيحيون بأن عيسى عليه السلام صلب عليها، كما تحتوي على القبر المقدس مكان دفنه، وفق تلك المعتقدات.

تحدياً للاحتلال، وفي خطوة نادرة، أغلق رجال الدين المسيحيين، كنيسة القيامة، ما شكل ضغطاً دولياً على نتنياهو، الذي تراجع مرغماً عن قرار فرض الضرائب على الكنائس، ليعاد فتح كنيسة القيامة بعد ثلاثة أيام من إغلاقها.

لكن نتنياهو سيعيد الكرّة، ولن يتراجع عن «يهودية» إسرائيل وعاصمتها القدس، أليس هذا ما يريده ترامب والمتصهينون الجدد؟!!

كاتب أردني

Email