حين يستدعي الغرب التاريخ في معاركه مع الحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الاحتفال الذي أقامته وزارته بالذكرى 75 للانتصار في معركة ستالينغراد الأسبوع الماضي، انتقد سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي المحاولات التي تقوم بها بعض البلدان من أجل إعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية بهدف طمس دور الاتحاد السوفييتي المحوري في تحطيم أسطورة الجيش النازي الذي لا يقهر. والوزير لافروف هو واحد من كبار المسؤولين الروس المقربين من الرئيس بوتين ممن شملتهم قائمة العقوبات التي فرضها الكونغرس الأميركي على قيادات روسية.

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد اعتبر روسيا في سياق استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها قوة رجعية، تحاول استعادة مكانتها على الساحة الدولية، متوعداً أن الولايات المتحدة لن تسمح لها بذلك. وفي هذا السياق يمكن فهم التشكيك الذي تقوم به أوساط اليمين الشعبوي الأوروبي والأميركي في انتصار معركة ستالينغراد التي حلت ذكراها الخامسة والسبعين في الثالث من فبراير.

وبرغم أن كتب التاريخ الغربي قبل السوفييتي، قد أوضحت أن النصر في تلك المعركة التي استمرت ستة أشهر من 17 يوليو 1942 إلى 2 فبراير 1943 وخسر فيها جيش الرايخ الثالث 300 ألف قتيل و90 ألف أسير، قد غيّر مسار الحرب العالمية الثانية، وألحق هزيمة مدوية بجيش ألمانيا النازية، كانت هي الأولى من نوعها منذ بدء الحرب، دفعته للاستسلام.

وإعلان قيادته أنها قاتلت حتى النفس الأخير واستسلمت بسبب «التفوق والظروف غير المواتية»، وأنها شكلت بملاحمها البطولية لأهالي ستالينغراد والجيش السوفييتي، بداية تحرير الدول الأوروبية من الفاشية وديكتاتورية هتلر النازية، ووضعت حداً للحرب العالمية الثانية بوصول الجيش السوفييتي إلى برلين في مايو عام 1945.

إلا أن رأياً آخر كان لدى اليمين المتطرف الشعبوي الغربي، حين خلط حسابات السياسة بوقائع التاريخ بما يفضي إلى تزويرها، وينطوي أولاً على مسعى يهدف إلى تبرئة جيش هتلر النازي من جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها ضد الشعب السوفييتي الذي بلغ عدد ضحاياه في هذه الحرب 26 مليون قتيل بينهم نحو مليوني قتيل في معارك ستالينغراد الطاحنة، بالتعامل بشكل انتقائي مع العمليات العسكرية للجيش النازي، وبوصفه تلك الجرائم بأنها حالات جنائية فردية، وتمجيده لمنجزاته العسكرية ولضحاياه.

واعتباره ثانياً أن المعركة التي غيّرت مسار الحرب العالمية الثانية هي معركة نزول القوات الأميركية والبريطانية في عام 1944 إلى شواطئ نورماندي شمال فرنسا، للتقليل من دور الاتحاد السوفييتي في القضاء على الفاشية.

ومع أن لا أحد ينكر أن هذا الإنزال كان حدثاً مهماً في التصدي للمخاطر النازية والفاشية، إلا أنه كان تالياً في تاريخ وقوعه وفي حجم تأثيره في مسار الحرب مقارنة بمعركة ستالينغراد، الذي يسعى إلى مثل هذا الخلط للتقليل من تأثيرها من جانب، وتصعيد المواجهة مع روسيا بوتين من جانب آخر باستحضار التاريخ وتزييف وقائعه، لخدمة معارك الحاضر، التي تتصدرها سياسة المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد روسيا داخل حلف "ناتو" وخارجه، برغم الاتهامات التي تلاحق ترامب بأنه صعد إلى البيت الأبيض بمساعدة روسية!

ويبدو أن المشكلات الداخلية المتفاقمة قد أضعفت إدارته، ولعبت دوراً في تراجع مكانة واشنطن في السياسة الدولية بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، في مقابل تعزيز روسيا لمكانتها، سواء بالتفوق في صناعة الأسلحة النووية، أو تطوير قدراتها العسكرية والتوسع في تحالفاتها الدولية والإقليمية، وهو ما تعتبره إدارة ترامب تهديداً للولايات المتحدة يتطلب التلويح بجر العالم لحرب نووية، بعد أن رفع الميزانية العسكرية الأميركية إلى 700 مليار دولار، بينها عشرون مليار دولار لتطوير الأسلحة النووية.

يقول المؤرخ التقدمي الأميركي هوارد زن إنه بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي القوتين العظميين في العالم، تتسلح كل منهما بآلاف الأسلحة النووية. وكان التنافس مع الاتحاد السوفييتي حقيقياً، لكنه ظل أيضاً غطاءً دوماً للتدخلات الأميركية المستمرة في أميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط.

وعندما قامت المخابرات المركزية الأميركية بتدبير انقلاب في إيران للإطاحة بحكومة مصدق عام 1953 فإنها جسدت حقيقة أن سيطرتها على بترول الشرق الأوسط هي النصر الحقيقي للسياسة الأميركية في هذه المنطقة.

فإذا كانت هذه هي الصورة التي بررت بها واشنطن سياستها الاستعمارية بمواجهة موسكو في القرن الماضي، كما وصفها زن، فما الذي ينبغي علينا نحن أبناء هذه المنطقة ضحية هذه السياسة الاستعمارية أن ننتظره، من سياسة الولايات المتحدة الأميركية الممعنة في تزوير التاريخ وتصعيد المواجهة مع روسيا في القرن الحالي سوى مزيد من إهدار حقوقنا المشروعة؟!

 

 

Email