المسار المهني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكي نقوم بقياس نجاح أي مجتمع علينا دراسة مخرجات التعليم في هذا المجتمع، فهو المعيار الأهم ضمن مجموعة من المعايير التي من خلالها يمكننا وضع اليد على الجرح، ومعرفة ما إذا كنا بحاجة إلى تصحيح مسار أو تغييره أو استحداث مسارات جديدة.

مخرجات التعليم وما تُخرجه لنا جامعاتنا لا بد من أن تتناسب مع احتياجاتنا في سوق العمل، وهذه العملية تشبه إلى حد ما «أزمة السير» فكلما زاد عدد المركبات وضاق الطريق كانت أزمة السير خانقة، ولمواجهة هذه الحالة تقوم الجهات المعنية بحالة الطرق باستحداث طرق جديدة لتخفف من الاختناقات، وهذا ما قامت به وزارة التربية والتعليم في خطوة تصحيحية باستحداثها للمسار المهني كأحد المسارات الأربعة للثانوية العامة.

تقوم الكثير من الدول بتشجيع التعليم العالي، وتحث الخريجين على استكمال مسيرة التعليم للوصول إلى درجات عليا، وتتناسى أن تثبت القاعدة وتوازنها من الأسفل بتشجيعها على المسارات المهنية، ورفد سوق العمل بمهنيين وحرفيين متعلمين أصول مهنتهم ومحترفين بتأدية أدوارهم فيها بدلاً من جعل هذه المهن متروكة لمحض الصدفة من دون رقيب أو حسيب، ولا حتى دراسة لمخرجاتها وكيفية إدارتها ورفدها بمن يحترف تأديتها.

ولهذا قامت وزارة التربية بإدخال المسار المهني إلى المدرسة الإماراتية ليتماشى مع متطلبات السوق ولإتاحة الفرصة لشبابنا وشاباتنا لأن يكون أمامهم العديد من الخيارات التي تخدم تطلعاتهم وميولهم الشخصية، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى تصحيح النظرة السلبية للحرف والمهن.

فغالبية المجتمع تنظر إلى ممتهنيها بنظرة دونية مقارنة بمن يمتهن الوظائف الإدارية والتدريسية، ولنا هنا وقفة ووقفتنا يجب أن تكون شمولية لنعيد ترتيب الأوراق لنصل بمجتمع يحترم الحرفة والحرفي فكلنا بحاجة إليه وكلنا نبحث عمن يقوم بها باحترافية وبجودة عالية.

المجتمع بأكمله بحاجة للحرف، ولا يعني أن ممتهني هذه الحرف هم أقل من غيرهم في القدرات العقلية والإبداعية، بل على العكس فهؤلاء عندما يحترفون مهنتهم ويؤدونها بحرفية عالية المستوى يتطلب ذلك مجهوداً عقلياً عالي المستوى، وأيضاً هؤلاء بإمكانهم أن يصنعوا نجاحات كبيرة في مجالاتهم، فمصممي الأزياء مثلاً بإمكانهم أن يصبحوا أصحاب دور للأزياء، وكبار الطهاة بإمكانهم أن يصنعوا علاماتهم التجارية الفريدة في عالم المذاق ويصبحوا أصحاب مطاعم عالمية مشهورة.

ولهذا على مجتمعاتنا أن تراجع نفسها حيال نظرتها للمهن والمهنيين، وأن نرتقي بأن نعترف بأن كل شخص ملك في مجاله، ونبتعد عن المقولة المنقودة «بلد شهادات»، والتي تعني كم التخرج العلمي على حساب النوعية التقنية الفنية.

وزارة التربية مشكورة على استحداثها لهذا «المسار المهني» وإن كان ما زال تجريبياً، ولكن هذا وحده لا يكفي فعلى مؤسساتنا الأخرى أن تقوم بدعم هذا القرار وهذا التوجه بأن تسخر إمكانياتها لتغيير فكر المجتمع، ولمؤسساتنا الإعلامية الدور الأكبر في هذه المهمة.

فالتركيز على النماذج الوطنية ممن أبدعوا وبرعوا في مهنهم، وسرد قصص نجاحهم بطريقة جذابة سيعمل على تغيير فكر المجتمع تدريجياً، فكما توجه رسائلنا الإعلامية لضرورة الارتقاء بالتعليم العالي وتظهر حسناتها وتبرز مكانتها الاجتماعية والوظيفية من خلال المسلسلات والبرامج الإعلامية عليها أن تعادل الكفة وتخلق ذات النظرة للحرفيين المحترفين في أعمالهم ومهنهم.

المجتمع يجب أن يتوازن، والتوازن يأتي من التعددية، ومهما سعينا للارتقاء في مخرجات التعليم، ووجهنا طاقات شبابنا نحو التعليم العالي فلن نصل للتوازن المطلوب، إنما علينا أن نجعل الكفة متعادلة بأن نسلح شبابنا بمختلف التخصصات والاختصاصات، وأن ننوع في درجاتهم العلمية والتعليمية.

فهذا سيوجد مجتمعاً متجانساً تتناسب فيه مخرجاته التعليمية مع سوق العمل، وحجم المعروض بداخله، فليس من الصحيح أن نجعل جميع شبابنا موظفين على مكاتبهم، ولا مهندسين أمام مخططاتهم، إنما نريد أيضاً الحرفيين المنفذين لهذه الخطط والمخططات.

إن في استحداث هذا المسار يجب على جامعاتنا وكلياتنا أن تجهز مسارات تعليمية تطبيقية تتناسب مع هذا المسار، وأن تسلح شبابنا بالعلم والمعرفة التطبيقية العملية كل حسب اختصاصه ومجاله، لكي تكون مخرجاتنا التعليمية علماً أكاديمياً وآخر تطبيقياً عملياً، فالإمارات أمامها مستقبل كبير، والمجتمع الإماراتي في ازدياد ولهذا يجب التركيز على المسار المهني فمنه ينطلق المجتمع نحو التوازن.

ومن خلاله نحل الكثير من المشاكل الحياتية التي تواجهنا يومياً، فكم منا يستحيل عليه إيجاد حرفي ممتهن بحرفية لحرفته، وبهذا المسار الثانوي سنعمل على سد هذه الفجوة، وهذه هي تطلعات قيادتنا أن يصنعوا المواطن الإماراتي ويجهزوه للمستقبل بكامل تحدياته.

وقد كان لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان كلمة ألقاها في «مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل» قال فيها: «نحن مستعدون لأن نخدم بلادنا في كل شيء، وليس عيباً أن يعمل المواطن سائق تاكسي»، وهذا يؤكد أننا جميعاً نطوع سواعدنا لخدمة وطننا، وما يحتاجه وطننا مستقبلاً هو حرفيون مهنيون قادرون على البناء بأيديهم الماهرة المتدربة المتعلمة.

المجتمعات المتقدمة تسلح أبناءها بحرف يدوية وعلوم تطبيقية لكي تضمن أن كل خطة توضع يوجد من ينفذها، كل حرف يكتب توجد سواعد وطنية قادرة على تنفيذه عملياً على أرض الواقع، فقبل أيام أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي أول قمر صناعي بأيد إماراتية 100%.

وهذه الأيدي لم تتعلم العلوم فقط إنما كان لها بصمتها في الصناعة، وكل القطاعات الأخرى بحاجة أيضاً إلى أن يكون للأيدي الإماراتية بصمة فيها، فكما كان للعقول الإماراتية بصمة واضحة وناجحة فالمستقبل يتطلب أيضاً للأيدي الإماراتية أن تضع بصمتها وتسخر سواعدها لخدمة وطننا وخدمة إماراتنا.

 

 

Email