الأم رحيق الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الأسئلة التي لا يستطيع الممسك بالقلم أن يجيب عنها: هل من الممكن التوقف عن الكتابة؟ ولأسباب عدة ينتابني الخوف من الكتابة، منها الخوف من الاقتراب من المحرمات والممنوعات والمحظورات، ومنها عدم القدرة على التعبير عن الذكريات القوية التي برغم مرور الوقت والزمن تظل عالقة بمشاعرنا، وأحاسيسنا لا تفارقها، وذلك مثل ذكريات الحياة في كنف الأم التي كان يرضيك ويعجبك كثيراً نظرتها إليك وكأنك طفل صغير، إنه الحنين إلى حب الأم وحنانها، والحنين إلى الطفولة البعيدة عن متاعب الحياة ومشكلاتها الكبيرة.

إن الاهتمام بالأم كان منذ رواية «الأم» لماكسيم غوركي التي هي عمود من أعمدة الأدب الحديث على المستوى العالمي، ولعل العديد من السينمائيين تناولوا ذلك في أفلام عديدة وبلغات عدة، هي ذلك الدفء والحنان لمن هم أعلى السلم الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وهي التي تحفظ العديد من الأسرار، ومن دونها يعتبر الإنسان تائهاً في الصحراء وكأنه يتابع السراب بحثاً عن الماء، أو هروباً من الواقع المرير الذي يعيش فيه دهراً.

في هذه الأيام، يزداد الشوق والحنين إلى الأم التي تعتبر رمزاً للأمن والاستقرار، فلا الدموع تعيدها ولا الآهات، فقد ذهبت بعيداً عنك وعن كل من يحبها داعيةً لهم بالسلامة.

حتى وأنا أستمع إلى الراحلة وردة الجزائرية وهي تشدو: «بلاش تفارق»، بكل جوارحها وصدق الأداء، أشتاق إلى أمي وكأنها ما زالت حية تُرزق، إن الفن الراقي هو الباقي، وهو الذي يوجّه الأحاسيس إلى الوجهات الراقية من المشاعر.

الأم هي الهواء النظيف والنقي الذي نحتاج إليه لاستمرار مسيرة الحياة. هل من الممكن أن تكون الزوجة هي البديل الذي يحيط بك كأمان وراحة؟ لست أدري، والأكيد أنها لا يمكن أن تحل محل الأم.

الأم هي الإنسانة التي حافظت على بيتها وأبنائها من هجوم الذئاب البشرية، وربما تلك الثعالب الماكرة التي تبحث عن فرائسها بين الضعفاء من البشر، وتنقض عليهم بلا رحمة، ألم يُقلْ إن الجوع كافر لا يرحم أحداً.

إن من أصعب اللحظات في الحياة رحيل الأم، عندها يظهر الإدراك أن واحة الأمن قد اختُرقت، وأن العواصف قد هبّت تزيل وتمحي كل من يقف أمامها.

الفلاسفة يقولون إن الحزن ما هو إلا فكرة في ذهن الإنسان تساعده على مواجهة آلام الحياة وعذاباتها، ويقولون إن ألم فراق الأعزاء يولد كبيراً، ثم يصغر بمرور الأيام حتى يتلاشى ويصبح ذكرى، إنها الحياة تبدأ مع شروق الشمس وتعود إلى الغفوة مع غيابها، ولهذا يوصف النوم في كتب الأديان بأنه الموت المؤقت.

عند رحيل الأم لا ينفع الأب في تخفيف الآلام، لأنه هو الآخر يعاني فراقها، ربما أكثر من الأبناء، والجميع ينشغل في حياته وعائلته، بينما يظل الأب يعيش في الذكريات ولا يصدق أنها رحلت، وبرغم هذا يبقى الأب مصدر الأمن والأمان، لأنه يحاول دائماً أن يحتفظ بوظيفة الراعي للأسرة، ويحاول أن يهوّن على الجميع آلامهم وأحزانهم.

وتبقى الأم هي الأقوى في الذاكرة مهما مضى من العمر.

 

 

 

Email