سماكة الرماد

ت + ت - الحجم الطبيعي

والتعبير ليس من عندي، ولكنه للكاتب والأديب اللبناني أمين معلوف، وهو يتحدث في روايته «موانئ المشرق» عن الزمن، واصفاً إياه بأنه مجرد وهم وسراب، متمنياً أن تأتي «كلارا» في الموعد الذي حدده «عصيان» للقائهما، كي تمضي قصتهما في سبيلها الجديد، بعد فراق قسري استغرق 28 عاماً من الزمن، فهل يكون للماضي، بساعاته وأيامه وأسابيعه وعقوده، سماكة الرماد نفسها، كما وصفه أمين معلوف في روايته؟

ربما يبدو السؤال فلسفياً أكثر منه محاكاة للواقع، لأن الإحساس بالزمن متفاوت بين البشر، علاوة على أنه مرتبط بالحالة النفسية لمن يعبر الزمن، فالوتيرة التي تمضي بها ساعات الفرح، تختلف عن تلك التي تمضي بها ساعات الحزن.

هذا عندما يتعلق الأمر بالحاضر، لكن الوضع يختلف عندما يتعلق بالماضي، بكل ما فيه من أحداث، بعضها يظل عالقاً بالذاكرة، بينما يذهب بعضها الآخر إلى زوايا النسيان، فلا يعود له أثر.

«الزمن العتيد، وإن استمر إلى الأبد، يُعاش ثانية تلو أخرى». هذا ما يقوله أمين معلوف في «موانئ المشرق»، بينما الرواية توشك على الوصول إلى نهايتها، بعد أن وصف الماضي بأن له سماكة الرماد نفسها، وترك لقاء «عصيان» و«كلارا» نهباً لأسئلة القارئ، ومساحة مفتوحة لفضوله.

يحدث هذا أيضاً على أرض الواقع، وليس في الروايات فقط، ولكن إلى أي مدى نستطيع نحن أن نشارك أو نتدخل في صياغة النهايات، بدلاً من الوقوف على أرصفة الانتظار لمعرفة الإجابات؟، كل الوقائع تقول إن لكل واحد منا تجربة أو أكثر، ولكن إلى أي مدى شاركنا في صياغة النهاية، أو صاغها الواحد منا تماماً بنفسه كما أراد، ولم يقف على رصيف الانتظار لمعرفة الإجابة؟

ثمة حكاية صينية تتحدث عن مزارع لديه حصان هرب ذات يوم، فقال جاره: هذا أمر سيئ. رد المزارع: أمر سيئ.. أمر جيد، من يعلم؟، بعد فترة عاد الحصان ومعه قطيع من الخيول البرية، فقال الجار: أمر جيد. رد المزارع: أمر جيد.. أمر سيئ، من يعلم؟، وهب المزارع ابنه الشاب أحد تلك الخيول.

ركب الولد الحصان فوقع من على ظهره وكُسرِت رجله. قال الجار: أمر سيئ. رد المزارع: أمر سيئ.. أمر جيد، من يعلم؟، بعد أيام استدعى الإمبراطور جميع الشبان ممن هم في مثل سن ذلك الشاب للقتال، وتم استثناء ابن المزارع، لأن رجله مكسورة. قال الجار: أمر جيد. ليس للحكاية نهاية محددة، لكن المغزى منها واضح، من يعلم؟

وكما أن للرماد حكاية مع كُتّاب الروايات، فإن له حكايات أيضاً مع الشعراء. يقول الشاعر المصري فاروق جويدة، في إحدى قصائده الجميلة:

ويمضي العامُ.. بعدَ العامِ.. بعدَ العامْ

وتسقطُ بيننا الأيامْ

ويصبحُ عمرُنا سدا

ويصبحُ حبُّنا قيدا

وحلماً بين أيدينا حطامْ

رمادٌ أنتِ في عيني

بقايا من حريقٍ ثارَ في دمِنا ونامْ

ويمضي العامُ.. بعد العامِ.. بعد العامْ..

فلا أنتِ التي كنتِ.. ولا أنا فارسُ الأحلام

فما حكاية الرماد هذا؟، وإلى أي مدى هو مرتبط بالماضي فقط؟، وهل هو مجرد أثر من آثاره، أم هو جزء من الواقع الذي نعيشه؟، هذه أسئلة أخرى تطرحها علينا الروايات وقصائد الشعراء، وتحفِّزنا على البحث عن إجابات لها، قد نجدها قريبة منا، وقد نذهب بعيداً كي نعرف الحقيقة التي هي ضالة الباحث عن المعرفة.

عندما نشاهد فيلماً قديماً من أفلام الأبيض والأسود، تلح علينا فكرة أنهم عاشوا زمناً جميلاً أفضل من زمننا، ونتمنى لو أننا عشناه معهم، فهل هي حقيقة، أم هو مجرد هروب من الواقع إلى الوراء هذه المرة، وليس الأمام، كما تفرض علينا عربة الحياة، التي لا تعود عجلاتها إلى الوراء أبداً، مهما حاولنا أن نفعل ذلك؟

عندما أصدر الكاتب الإنجليزي الشهير «هربرت جورج ويلز»، روايته المعروفة «آلة الزمن» عام 1895، لم يفكر في الانتقال عبر الزمن إلى الوراء، على عكس ما يتمنى البعض، وإنما فكر في الانتقال إلى الأمام، لمعرفة مستقبل البشرية، فهل لهذا دلالات معينة، أم لأن الماضي أصبح معروفاً لدينا، حتى لو كان ذلك عبر ما نتداوله من كتب تخبرنا عن البعيد الذي لم نعشه؟

واضح أن ثمة قلقاً من نوع ما يفرضه الواقع الذي يعيشه البشر، وهو قلق ليس ناتجاً عن تعقيدات العصر الذي نعيشه فقط، وإنما فطرة مغروسة فينا.

هذا القلق المستوطن في نفوس البشر منذ بدء الخليقة، هو ما دفع كاتباً يعيش في القرن الثامن عشر، إلى كتابة رواية يتخيل فيها عالماً يعيش في القرن التاسع عشر، يخترع آلة تعمل على مبدأ الحركة ذهاباً وإياباً في مجال البعد الرابع، وقد أخذته آلته إلى سنة 802,701 بعد الميلاد.

حيث جرت أحداث الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي أكثر من مرة، ربما كان آخرها عام 2002 من إخراج سيمون ويلز، حفيد كاتب الرواية، التي استوحت السينما والتلفزيون منها أفلاماً ومسلسلات كثيرة.

إذا كان للماضي سماكة الرماد، كما يقول أمين معلوف على لسان الراوي في «موانئ المشرق»، فلماذا نهرب إليه إذن؟ ألا نخشى أن تهب عليه الريح، فتذروه كما تذرو الرماد مهما كانت سماكته؟ أم أن الماضي في واقع الأمر رماد لم تعد له سماكة من أي نوع؟

«سماكة الرماد» ليست أكثر هشاشة من نفوس بعض البشر، وهذه حكاية أخرى، شرحها يطول.

 

 

Email