مئوية ناصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

ازدحم ضريح الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في الذكرى المئة لمولده ازدحاما يكاد من يراه، يتصور أن هذه الجماهير الحاشدة تنتظر بثقة وشغف إطلالته المحببة عليهم وقد تابعت وسائل الإعلام العالمية الحدث وكأن «لغز» عبد الناصر يصيبها، مجددا، بحيرة تزداد عمقا وغموضا، فجمال عبد الناصر ليس رجلا عاديا، بل هو بإجماع الآراء، من يحبه أو ومن يكرهه، أثر تأثيرا عميقا في حياة المصريين والعرب، بل والعالم الثالث وكذلك على المستوى الدولي، كما أكدت كلمات القيادات الشعبية المصرية والعربية .

وكذلك عدد من سفراء العالم في احتفالية دار الأوبرا المصرية، وهو ما يؤكد أنه حقاً ظاهرة، تجبر على التوقف والتأمل.. ابن بني مر بمحافظة أسيوط جاء إلى عالمنا منذ مئة عام، ولكنه غادر مبكرا نسبيا، حيث رحل في الثانية والخمسين من العمر، عمر اتسم بمعارك شرسة خاضها دفاعا عن الحق، بجسارة نادرة، فالتف حوله ملايين المصريين والعرب ومن شعوب العالم الثالث..

أصبح جمال عبد الناصر رمزا لتحدي كافة المعوقات ومجابهة أعداء الخارج والداخل معا، انطلاقا من إيمانه الراسخ بحق الوطن والمواطنين في العيش بحرية وكرامة ومساواة. ظل يشعر بالمواطن، أحلامه وآماله، ومن هنا كان جزءاً من الجسد المصري وليس من سكان البرج العاجي..

آمن بالشعب فبادله الشعب الإيمان به وكأن تمازجاً تم بين الشعب والقائد، استعصي فهمه على الخصوم والأعداء.. فهو أبدا لم يتوانَ عن رفع الظلم عن العامل والفلاح، وأكد أن من لا يملك قوت يومه لا يملك حرية قراره، كما أنه آمن بمكانة مصر الحقيقية وقدرها بأن تكون هي القيادة لأمتها العربية.

وهذا تحديداً ما أطار النوم من عيون القوى الاستعمارية وربيبتهم إسرائيل، لا سيما التلاحم بين عبد الناصر وبين الجماهير وحماستها لتأييد قراراته الصعبة وتحمل كل التضحيات التي تترتب على استرجاع الحقوق وإرساء العدالة الاجتماعية، خاصة إنقاذ الفلاحين من ويلات سيطرة الإقطاع.

وقد كانت معركة تأميم قناة السويس وبناء السد العالي من العلامات الفارقة، وكيف لا وقد شنت إمبراطوريتان، مع تابعتهما إسرائيل، عدواناً ثلاثياً، جوبه بمقاومة شعبية أسطورية أذهلت أطراف العدوان الغادر..

ومن أهم فصول المقاومة آنذاك تحرك الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، بعد خطاب عبد الناصر في الأزهر الشريف، الذي أكد فيه أننا سنقاتل ولن نستسلم.

هذا التحرك أثار قلقا رهيبا، لدى القوى الاستعمارية وأعوانها وحلفائها، واتفقت كلها على التعجيل بإزاحة الرجل، فكان عدوان 67، واستعدت واشنطن وتل أبيب للاحتفال برحيل عبد الناصر واستسلام المصريين لهزيمة عسكرية ساحقة شاركت فيها كل القوى التي تخشى مصر القوية..

لكن الشعب المصري نزل إلى الشوارع بالملايين وهزم الهزيمة بسلاح الإرادة، الذي منعهم من الابتهاج لما خططوا وتآمروا على تنفيذه، والأكيد أن مساء التاسع من يونيو، كان أول خطوة في حرب الاستنزاف المجيدة والتي تُوجت بالعبور العظيم.

المزعج حقا أن نجد من يحمل عبد الناصر مسؤولية حرب يونيو وكأن مصر هي التي شنت الحرب وبدأتها بقصف إسرائيل.

وكأنه ليس من حق مصر أن تحدد الدول التي تجتاز مياهها الإقليمية، لا سيما اذا ما كانت دولة بمثل عدوانية إسرائيل ومخططها التوسعي، وقد أكدت اكثر من دراسة أن موقف الشعب المصري مساء التاسع من يونيو قد غير الاستراتيجية العسكرية العالمية، حيث كان من المسلمات أن هزيمة عسكرية ساحقة تعني بالضرورة أن يغادر القائد موقعه، لكن الشعب أفسد المخطط وأصاب العدو بالدوار بحيث زلزل قناعاته الراسخة عندما هرع بملايينه ليهزم الهزيمة بسلاح غير مرئي، سره كامن في أعماق الوجدان المصري حصريا.

وستظل علاقة المصريين بعبد الناصر محل دراسة تحير الغرباء، مئوية بعد أخرى، مثلما بقي، ومازال سر بناء الأهرام على مدى آلاف السنين، لغزا عجزت عن حله أكثر تكنولوجيا تقدما وحداثة.

 

Email