منظومة ترامب لمعاقبة الفلسطينيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الواضح الآن أن الرئيس الأميركي ترامب لم يغير قواعد اللعبة الحاكمة للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية فحسب ولكنه أعادها كذلك عقوداً طويلة للخلف إن لم يكن قد نسفها من الأساس، ولم تتوقف مفاجآت ترامب المخيبة للآمال عند حد قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، وكم كانت غريبة تلك التغريدة التي أطلقها على حسابه في «تويتر» والتي تعكس شكلاً صارخاً من أشكال الإستهتار السياسي، مشيداً فيها بكل فخر بقراره الذي أزاح القدس من قضايا الحل النهائي، متهماً في الوقت ذاته الفلسطينيين بعدم إبداء رغبة واضحة في التفاوض!

ليستكمل بذلك منظومة عقاب الفلسطينيين غامضة الأسباب والدوافع والتي بدأت بإغلاق مكاتب المنظمة في الولايات المتحدة واتهاماته النارية للفلسطينيين بتلقي ملايين الدولارات من واشنطن على سبيل المساعدة، مشيراً بوضوح إلى أن على الفلسطينيين أن يترجموا هذه الملايين إلى سياسات عملية ترضى عنها الولايات المتحدة وإسرائيل بالقطع بغض النظر عن تعارضها مع الثوابت الفلسطينية المدعومة دولياً، ليس هذا فحسب ولكن جاءت إشاراته واضحة بأن «القدس مقابل المساعدات»!

كل هذه التطورات السلبية جاءت في وقت تعاني فيه إسرائيل والإدارة الأميركية من حالة عزلة غير مسبوقة على الصعيد الدولي نتيجة خروجها على قواعد اللعبة كما سبقت الإشارة ونسفها حل الدولتين وقضايا الحل النهائي على وجه التقريب. ومن المفترض أن مثل هذه الضغوط السياسية والدبلوماسية المكثفة من جانب العالم ومؤسساته الدولية والإقليمية كان ينبغي أن تؤتي ثماراً مختلفة في الاتجاه المعاكس.

ولكن ذلك لم يتحقق وأغلب الظن أنه لن يتحقق نتيجة العناد الأميركي المظلل بغطرسة القوة الحارسة للصلف الإسرائيلي، والذي لم يتردد أصحابه في اتخاذ خطوات أكثر عدوانية وأشد تطرقاً بعيدا عن أي طموحات أوخطوات نحو السلام، ولعل في مقدمة تلك الخطوات المدمرة لعملية السلام برمتها قانون «القدس الموحدة» الذي يكرس «يهودية» القدس، حيث يقضي بعزل أحياء فلسطينية عن المدينة المحتلة، والنص على أن أي مقترح لانسحاب من القدس يتطلب موافقة 80 عضواً بالكنيست، وهو ضرب من الخيال، كما ينص قانون أساس القدس الموحدة على أن أي مفاوضات حول انسحاب الاحتلال من القدس منوط بمصادقة غالبية تصل إلى ثلثي أعضاء الكنيست.

وهناك ما يشبه الإجماع على مستويات مختلفة على أن هدف القانون هو التحضير لاتخاذ خطوات مستقبلية تقضي بإخراج مناطق في شمال القدس المحتلة من منطقة نفوذ بلدية الاحتلال، وإنشاء سلطة محلية تضمهما وتابعة للاحتلال، يحمل فيه السكان الفلسطينيين مكانة الإقامة كباقي الفلسطينيين في القدس.

تدعو اللجنة المركزية لليكود قياداته المنتخبة إلى العمل من أجل السماح بالبناء الحر وإحلال قوانين إسرائيل وسيادتها على مجمل المجال الاستيطاني في الضفة وغزة، وعبر رئيس اللجنة المركزية لليكود خلال المؤتمر حاييم كاتس عن حقيقة هذه الخطوة بتأكيده إن "اعتراف مركز الليكود في الضفة وغزة والقدس جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، يعني تطبيق القوانين الإسرائيلية ولن نحتاج إلى تصريح لبناء مدرسة أو لإنارة المصابيح".

وتعقيباً على ذلك يرى مسؤولون في مركز الليكود أن المؤتمر جاء بدرجة أولى ليظهر أن "الليكود هو أولاً وقبل كل شيء حركة أيديولوجية لا تتعامل فقط في التحقيقات والتوصيات (في إشارة إلى ملفات الفساد التي تعصف برئيس الحكومة ورئيس ائتلافه، دافيد بيتان)، وأنه بعد إعلان ترامب وكفاحه من أجل القدس،حان الوقت لفرض السيادة في مناطق الاستيطان، ترامب ليس أكثر صهيونية منا، حان الوقت أن تثبت الحكومة أنها ليست أقل شجاعة من ترامب بشأن السيادة الإسرائيلية".

تلك تصريحات على طريقة "شهد شاهد من أهلها" تؤكد أن الرئيس الأميركي وجه بالفعل صفعة كبيرة لنهج التسوية، في وقت تتجه فيه إسرائيل نحو فرض "سيادتها" على كامل فلسطين التاريخية حتى ولو كان الثمن خلق نظام فصل عنصري بدعم أميركي، الأمر الذي أوصل المفاوضات إلى طريق مسدود، وفتح الباب واسعاً أمام إعادة صياغة اجتهادات وخيارات بديلة تعيد تعريف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تم تحريف جوهره، وتبني استراتيجية وطنية جديدة تتلاءم مع هذا الجوهر ومع المستجدات والحقائق التي خلقتها إسرائيل على الأرض، على حد قول أحد المؤرخين الإسرائيليين.

وذلك صحيح إلى حد كبير، لأن حل الدولتين بات في الغالب حديثاً من الماضي في ضوء القرارات الأميركية والقوانين الإسرائيلية الأخيرة وكذلك الخطوات المتوقعة من الطرفين في المستقبل ومن شأنها أن تفرض واقعاً في منتهى الخطورة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة,مثل هذه التطورات ستجعل لحل الدولتين، حتى في حالة التفاوض بشأنه وبحث آليات تنفيذه، حلاً أجوف، لأنه سيبنى على أسس واهية بعدما التهمت الدولة الصهيونية الجانب الأعظم من الأراضي الفلسطينية التي من شأنها أن تؤمن حداً أدنى من مقومات دولة فلسطينية قابلة للحياة والإستمرار والإستقرار.

وعلى رأسها بالقطع القدس الشرقية التي يعتبرها الكثيرون لب الصراع لمكانتها المقدسة أولاً وباعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة ثانياً، ومن ثم فإنه إذا كان احتلال فلسطين التاريخية هو ذروة المأساة بالنسبة للدول العربية وبالتأكيد للشعب الفلسطيني فإن المحاولات والمشروعات والسياسات الأميركية ـ الإسرائيلية لالتهام القدس والأقصى الشريف ليست إلا حلقة من حلقات هضم فلسطين التاريخية كاملة دون مواربة أو خجل، ليزداد الصراع تعقيداً ودموية في الآن معاً، فالتنازل عن الثوابت التاريخية ضرب من الخيال.

 

 

Email