الدولة الوطنية وتحديات العصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمس الحاجة اليوم لترسيخ دعائم الدولة الوطنية، التي يتمتع فيها الجميع بروح السلام والوئام، وينعمون بالتنمية والازدهار، متمتعين بحقوقهم، مؤدين ما عليهم من واجبات، وهذا المفهوم الوطني تواجهه تحديات كثيرة متنوعة تحتاج إلى تناول وعلاج.

فمن مهددات الدولة الوطنية النزعة الفردية المفرطة، وإهمال الصالح العام، وعلاج ذلك بترسيخ المواطنة الصالحة التي يقوم على أساسها كل فرد بواجبه تجاه نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه، ويكون عضواً صالحاً في وطنه، مساهماً في بنائه ورقيه، وعندما تنامت النزعة الفردية في ثمانينيات القرن الماضي في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وتزايد القلق منها لجأت هذه الدول إلى إحياء مفهوم المواطنة، كلغة أخلاقية تنمي في الفرد حس المسؤولية والالتزام والانتماء.

ومن تحديات العصر كذلك بل من أبرزها اليوم الإرهاب، والذي يظل خطراً كبيراً يهدد الجميع، ومن الأسس الوطنية تجاه هذا الداء تعزيز ثقافة السلم وعدم العنف، وترسيخ قيم التعايش، ونشر الخطاب الديني المعتدل، وبناء العلاقات الإنسانية الإيجابية بما يضمن الاحترام المتبادل بين الجميع، ليس في إطار الالتزامات القانونية فقط، فلا يمكن للقواعد والأنظمة أن تغطي كل شيء، بل أيضاً في إطار الالتزامات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، والتي تقوم على قيم الرحمة والتسامح والصدق والوفاء والأمانة والعدالة وحسن الجوار وغيرها.

ومن تحديات العصر التي تواجه الدولة الوطنية الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية، ولذا فمن واجبات الدولة الوطنية احتواء التنوع العرقي والديني والمذهبي، إلخ، بحيث لا يتجاوز أحد الخطوط الحمراء في التعامل مع الآخر، وذلك يقتضي وضع التشريعات التي تحول دون ذلك، وترسيخ سيادة القانون، وتقنين حرية التعبير بما يضمن نزع فتيل الصراعات والاحتراب الداخلي ويحفظ سلامة الجميع.

ومن تحديات العصر الأيديولوجيات التي لا تؤمن بالدولة الوطنية، ولا تعترف بالحدود السياسية السيادية، سواء كانت أيديولوجيات دينية أو قومية أو سياسية أو غيرها، وتستند هذه الأيديولوجيات إلى تصورات مغلوطة أو أحلام بإقامة الأمة الواحدة عن طريق الهدم والثورة وربما الغزو والاحتلال، متجاهلين أن العصر الحديث هو عصر الدول الوطنية ذات السيادة.

وأن إقامة الأمة الواحدة ليست بهدم الدول وإسقاط شرعيتها وسيادتها، أو تمكين قوى إقليمية طامعة في الهيمنة وبسط النفوذ تحت تلك الشعارات البراقة، ومن صور الانحراف كذلك اعتقاد أن الانتماء الوطني يلغي الانتماء للأمة، والعكس هو الصحيح، فمن ينتمي لوطنه العربي المسلم هو ينتمي بالضرورة إلى أمته العربية والإسلامية، وبالتالي من يخون وطنه فهو خائن بالضرورة لأمته.

ومن تحديات العصر كذلك إشكالية العلاقة بين الفرد والسلطة، وقد ساهم كثير من المثقفين في تعكير صفو هذه العلاقة، والتركيز على علاقة التضاد والتعارض، وتقسيم المثقفين إلى مثقف سلطة ومثقف معارضة، والإشادة بالثاني والازدراء بالأول، وتجاوز هذه العقبة تتطلب بناء الدولة الوطنية على أساس العلاقة السليمة بين الفرد والسلطة، والتي تقوم على ثنائية الحقوق والواجبات المتبادلة، وقيام كل طرف بما عليه تجاه الآخر.

ومن تحديات العصر كذلك التركيز على الجانب السياسي الضيق لمفهوم الوطنية، وحصر ذلك وقصره على شكل معين من أشكال الممارسة السياسية المشروطة بالنمط الغربي، وعدم الاعتداد بأي تنمية سياسية لا تنحو هذا المنحى، وقد ركزت كثير من الأطروحات على هذا الجانب.

وأصبح شغلاً شاغلاً لكثير من المثقفين، مما أفرز شباباً لا يعي من الوطنية إلا هذا المفهوم السياسي المشروط، ولا يعرف الدولة الحديثة إلا في هذا الإطار المنحاز، حتى اتجه بعضهم إلى إسقاط شرعية دولهم، منتهجين منهج الإرهاب الفكري والاستقواء بالخارج لفرض آرائهم على الدولة والمجتمع.

وهنا يأتي دور المثقفين لاحتواء هؤلاء الشباب، وتقديم رؤى تنويرية عن التنمية السياسية وتمكين الشباب تتجاوز التقليد الأعمى والتعصب لتجارب الآخرين، وتفتح لهم آفاقاً أرحب للمشاركة الإيجابية في ظل دولهم ومجتمعاتهم.

ومن تحديات العصر التي تواجه الدولة الوطنية ثورة التكنولوجيا وأدوات الاتصال الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت بوابات مفتوحة لمختلف الثقافات والأفكار، بما فيها تلك الأفكار التي تحرض الشباب على أوطانهم، وتغذيهم بمفاهيم خاطئة عن الوطنية، فيتورط الشاب في ممارسات تضر به وبوطنهم، فإن المواطنة وإن كانت شعوراً فطرياً فإنها من ناحية الممارسة سلو مكتسب، ولذا لا بد من تشكيل الوعي الوطني الصحيح لدى الشباب وإرشادهم إلى الطرق الصحيحة في التعبير عن حبهم لوطنهم.

ومن تحديات العصر كذلك العولمة، وما أفرزته من مفاهيم جديدة، ومنها على سبيل المثال المواطنة العالمية، وقد جاء في بعض تعريفات المواطن العالمي بأنه الشخص الذي يضع المواطنة العالمية فوق أي هويات أو علاقات وطنية أو محلية، ولا شك بأن المواطنة العالمية بهذا المعنى تهدم مفهوم الدولة الوطنية، وتجعل المرء فاقد الانتماء لوطنه غير مبال بقضاياه تحت شعار القرية المفتوحة والعالم الواحد.

وقد تتعدى خطورة ذلك إلى أن يصبح الإنسان قابلاً للتأثر بأي قوى خارجية تسعى للإضرار بمصالح وطنه تحت تلك الشعارات، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والإعلامية وغيرها في غرس الثقافة الوطنية في المجتمع، وتنمية الحس الوطني وتعزيز الشعور به، وترسيخ وحدة التفكير والمشاعر بين المواطنين فيما يتعلق بذلك، وبيان أن من مقتضيات الانتماء الوطني أن يكون الإنسان فرداً صالحاً في أي مكان كان، يضع مصلحة وطنه فوق أي اعتبار، ويقدم الخير للجميع.

 

 

 

Email