الإمارات من القبيلة إلى الدولة العصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرت الإمارات خلال تاريخها الطويل بالعديد من مراحل نشوء وقيام الدول بدءاً من القبيلة البدوية الصغيرة ومروراً بالمدينة المزدهرة ثم الإمارة المتسعة وانتهاء بالدولة القومية المتحدة. كان حلم الآباء المؤسسين يشابه حلم زايد.

فالجميع كانوا يحلمون بكيان سياسي ومجتمع متماسك قوي يعكس قيم الصحراء النبيلة وكل ما فيها من فضائل أصيلة كالكرم والتسامح وحب الخير للآخرين والشهامة، ولكن زايد حلم أيضاً بكيان عصري حديث يجسد قيم الصحراء الأصيلة.

وهكذا عمد زايد خلال جميع مراحل قيام الدولة الحديثة على التمسك بنهج الآباء والأجداد وعدم التخلي عن هذه القيم التي كانت تجمع قبائل الصحراء وتوحدهم. ونصحنا زايد بالاستمرار بالتمسك بها لأنها السر وراء نهضة المجتمعات وسبب استمراريتها وتفردها السياسي والحضاري.

الكثير من الدراسات التاريخية والسياسية وضعت عن إنجازات الشيخ زايد ومآثره ولكن القليل منها تطرق إلى فلسفة زايد في بناء الدولة، وفي العمل من أجل خير ورفاهية الإنسان أينما كان وأياً كان لونه وعرقه.

لم يكن زايد زعيماً إماراتياً فحسب، بل قائداً عربياً وملهماً عالمياً عمل بصمت من أجل الإنسان وقضاياه المصيرية المتعددة. ولهذا تفرد زايد بفلسفة مجتمعية حجزت له مكانة متميزة على قائمة قادة العالم الملهمين.

تبلورت زعامة زايد محلياً حتى قبل إعلان استقلال دولة الإمارات. فقد عمل زايد قبل سنوات من إعلان الاتحاد على التحقق من أن الانتقال من نظام القبيلة إلى نظام الدولة سوف يكون متسلسلاً ليس فقط فيما يختص بالنظام الإداري بل النظام الاجتماعي والحضاري أيضاً.

ففي نظام القبيلة كان الولاء مباشرة للقبيلة وشيخها وكان نقل الولاء إلى الدولة عوضا عن القبيلة هاجسا يؤرق، ليس فقط زايد بل والكثير من المنظرين الذين كانوا يتابعون نشوء هذا الكيان الجديد ويطرحون العديد من التساؤلات. ومن أهم التساؤلات كانت قضية نقل الولاء من القبيلة إلى الدولة كونه يطرح سؤالاً غاية في الأهمية عن قدرة الكيانات القبلية البدوية على تشكيل ولاء للدولة القومية الحديثة وضمان استمراره.

سؤال آخر تبلور أثناء وبعد قيام الاتحاد ألا وهو قدرة الكيان الجديد على تخطي صعوبات التأسيس كالتخطيط الحضري والتدبير الاقتصادي للموارد وغيرها من القضايا التي تواجه نشوء الكيانات السياسية الحديثة.

في هذا المجال كانت إدارة زايد لهذه القضايا مصدراً للإبهار. فقد أثبت زايد بأنه ليس فقط زعيماً قبلياً محلياً بل قائداً مجتمعياً ساهمت فلسفته في نقل الإمارات من نظام القبيلة إلى الدولة العصرية الحديثة.

لم يتم الانتقال من نظام القبيلة إلى الدولة فجائياً، بل جاء الانتقال عبر المرور مرحلياً إلى نظام المدينة ثم الإمارة. فجميع إمارات الدولة هي في واقع الأمر عبارة عن تجمعات قبلية قبل تحولها إلى مدن تطورت على الساحل ثم تحولت بعد ذلك إلى إمارات.

كما أنه من الملاحظ أن التطور المادي والحضري الذي لحق بمدن الدولة لم يكن كله على نسق واحد ولم يكن كله نتاج التطور السياسي. فبعض مدن الدولة لحقت بها تحولات جذرية ليست من جراء التطورات السياسية بل الاقتصادية. فقد شهدت بعض مدن الدولة ظهور ما يعرف باسم المجتمع التجاري كدبي والشارقة مثلاً، والذي ساهم ظهوره في تطور تلك المدن تطوراً غير مسبوق.

التطورات السياسية والاقتصادية هذه واكبتها أيضاً تطورات اجتماعية وحضرية أثرت على المكون الاجتماعي والديمغرافي لمنطقة الإمارات. فمدن الإمارات القديمة كانت متجانسة سكانياً واجتماعياً يغلب عليها الطابع القبلي.

ولكن انتقال مدن الإمارات إلى نظام الإمارة كانت له العديد من الآثار الديمغرافية والحضرية كما ترتب على هذا الانتقال عوامل عدة أهمها الاتساع الحضري والزيادة السكانية والريادة الحضارية. هذه العناصر ساهمت فيما بعد في جعل تحول الإمارات إلى نظام الدولة العصرية أمراً غير صعب.

إن الإمارات وهي تحتفل هذا العام بعام زايد إنما تحتفل بإرث فلسفي جسدته سياسات زايد في بناء الدولة، وحضارة عريقة استطاع زايد أن يدفع بها إلى العالمية عبر أنموذج حي وراقٍ. لهذا يحق لأبناء زايد أن يفخروا بما حققته الإمارات من نمو وتطور ليس مادياً فحسب بل حضارياً.

إن القيم التي ترعاها الإمارات الآن هي نفسها التي حرص زايد والآباء المؤسسون على إيلائها أهمية ومكانة في ثقافة أهل الإمارات.

 

 

Email