المطلوب أوروبياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبطانة السوء الصهيونية من حوله، أنهم لن يجدوا توقيتا أكثر مواتاة لتطبيق قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والتوجيه بنقل سفارة واشنطن إليها، من المرحلة الراهنة.. فالفلسطينيون منقسمون على أنفسهم. والعرب منغمسون في مواجع وشواغل داخلية مضنية وبعضها دام. والمسلمون حيارى اختلطت عليهم قضايا الصداقة والعداوة.

فات أصحاب هذا الظن أن مصير فلسطين بعامة وعروبة القدس وإسلاميتها بالمعنى الحضاري الذي يشمل البعد المسيحي بخاصة، من قضايا الإجماع التي يمكن الاجتهاد بشأن معالجتها وليس الخلاف عليها. والأهم أنهم لم يأخذوا في حساباتهم أن قرارهم المنكود يتزامن مع اشتعال الصدور الفلسطينية والعربية والإسلامية بعديد الذكريات الموصولة بمأساة فلسطين والقدس؛ كمرور مئة عام على تصريح بلفور، وثمانين عاماً على أول مقترح لتقسيم فلسطين (بيل 1937)، وسبعين عاماً على قرار الأمم المتحدة بالتقسيم (1947)، وخمسين عاماً على استكمال احتلال فلسطين بما فيها القدس والأقصى المبارك (1967)، وثلاثين عاماً على الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)..

يقال عن حق بأن ترامب لا يفهم «الشرق الأوسط». بعض المسؤولين الأوروبيين صرحوا بذلك على الملأ. وفي المقابل يمكن الدفع بأن العواصم الأوروبية تتفوق بلا منازع على واشنطن في سبر أغوار العرب والمسلمين عموماً. ومن المرجح أن فارق الدراية والمعرفة بحقيقة ما يعتمل هذه الأيام في الأجندة التاريخية لقضية فلسطين، ساهم في تسفيه هذه العواصم للقرار الأميركي، بحسبه جاء في توقيت شديد السوء، وأدى إلى مزيد من الضغط على أبرز الأعصاب العارية في العلاقات بين العرب والمسلمين من جانب والغرب من جانب آخر.

بصيغة أخرى، خرج ترامب وبطانته على الناس بقرارهم، فيما كان الأوروبيون يحاولون تبييض مواقف وقرارات وسياسات، سبق أن اتخذوها ضد الحقوق الفلسطينية والعربية التاريخية والقانونية في فلسطين. والأنكى أن القرار تجاوز كثيراً ما فعله الأوروبيون، إبان ذروة سطوتهم ومجدهم الاستعماري في فلسطين ومنظومتها القومية والحضارية.. فلا وعد بلفور ولا مشروعات التقسيم المتوالية ولا احتلال فلسطين بالكامل، صرفهم عن استثناء القدس من السيطرة المنفردة للمشروع الصهيوني وكيانه السياسي إسرائيل. وحده ترامب وقراره الأرعن يحاول الآن المروق على هذا المحذور.

يعرف الأوروبيون تفاصيل الظلامة الفلسطينية كما يعرفون آباءهم.. ويدركون حجم الاصطبار الفلسطيني على انحياز واشنطن للجانب الإسرائيلي.. وكيف أن السياسة الأميركية لا ينقصها التنطع والمراوغة، حين تدعي بأن تزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة، يطمئنها أمنياً ويعزز رغبتها في التسوية السلمية.. أو حين تزعم رفضها اتخاذ الفلسطينيين والإسرائيليين خطوات أحادية الجانب، بينما يضطلع الأخيرون بتسويد وجه الدولة الفلسطينية المحتلة بالمستوطنات.. أو حين تجاهر بمهاجمة التنظيمات الدولية التي تدين السياسات العدوانية الإسرائيلية ضد ثوابت قوانين الأمم المتحضرة وأعرافها..

بناء على ذلك ومثله، لا بد أن الأوروبيين يقدرون أسباب «كفر» الفلسطينيين بالوساطة الأميركية؛ التي لم تكن ولا يسعها أن تكون نزيهة أو محايدة. ونحسب أنه يتعين عليهم توقع استطراد الانطباعات الكريهة عن السياسة الأميركية، لدى عامة العرب والمسلمين، إليهم هم أنفسهم.. وذلك باعتبار أنهم جميعاً شركاء في عالم الغرب الذي «لا يأتي منه ما يسر القلب».

ولأن مثل هذا الاستطراد المحتمل بشدة سيؤذي المصالح الأوروبية، ويشجع روايات التطرف والمتطرفين، ويثير شجوناً ومواجد دفينة عن صورة «الغرب الاستعماري»، فلا بد أن يضطلع الأوروبيين بدور فاعل وعملي أقوى في «فرملة» عنجهية المعلم الأميركي، وممارسة ضغوط ملموسة على إسرائيل، بما يرضي الحد الأدنى الذي قبل به الفلسطينيون من حقوقهم.

Email