نقل السفارة.. التأسيس الثالث لإسرائيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الممكن القول وبطريق أقرب إلى اليقين إن قرار الرئيس الأميركي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، هو بمثابة التأسيس الثالث لدولة إسرائيل؛ باعتبار أن إعلان قيام إسرائيل وحرب 1948 كان التأسيس الأول، وعدوان 5 يونيو عام 1967 واحتلال إسرائيل لبقية الأراضي الفلسطينية والجولان وسيناء هو التأسيس الثاني.

ولا شك أن هذا التأسيس الثالث للدولة اليهودية بقرار نقل السفارة إلى القدس لا يقل من حيث آثاره أو تداعياته عن مراحل التأسيس التي سبقته، ذلك من زاوية دعم الأسطورة اليهودية والصهيونية الدينية وتعزيز مصداقية الرواية الصهيونية حول فلسطين وتحقيق الخلاص عبر إقامة الدولة اليهودية وعودة اليهود إليها.

تجاهلت الإدارة الأميركية الحالية حقائق أساسية لا تتعلق فحسب بحقيقة المدينة العربية والإسلامية وطبيعة المطالب العربية والإسلامية والرمزية الدينية التي ترتبط بالمدينة المقدسة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، بل تتعلق أيضاً بالوقائع والحقائق التي تخص الموقف الأميركي من المدينة المقدسة في كل العهود والإدارات، أول هذه الوقائع أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تعترف بسيطرة إسرائيل على القدس الغربية إبان حرب 1948.

واستمر هذا الوضع حتى عام 1989 عندما وقع اتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لتأجير قطعة أرض في القدس الغربية مساحتها 31.250م2 ويمكن اعتبار هذا الاتفاق بمثابة جذور وبداية اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على القدس الغربية من ناحية أخرى لدي شك أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلم أو يعرف أن موقع السفارة الأميركية في القدس المزمع نقل السفارة إليه مملوك للأوقاف الإسلامية وبعض العائلات الفلسطينية من اللاجئين.

وفقاً لمعلومات ووثائق أميركية تثبت ملكية أرض السفارة الأميركية لعائلات فلسطينية وفق الشهادات والمستندات التي تم الكشف عنها في بحث تاريخي أشرفت عليه مجموعة من الباحثين والمؤرخين الفلسطينيين الذين تكلفوا عناء البحث عن هذه الوثائق والمستندات في مختلف الهيئات الفلسطينية والأميركية والبريطانية والأمم المتحدة، من المؤكد أن الخارجية الأميركية تعلم بوجود هذه المطالبات.

ولكنها سواء أحاطت ترامب علماً بذلك أو لم تحطه؛ فالرجل مدفوع بدوافع غامضة وغير مفهومة، أو أنها تفهم على ضوء المرجعية الدينية الصهيونية التي يبدو أن الرئيس قد استوعبها، والأهم من ذلك أنه يمجد القوة والعنصرية، وكما منح الأولوية في خطاباته وتصريحاته لأميركا «والبيض»، فهو الآن يمنح الألوية لإسرائيل واليهود.

تتجاوز خطوة القرار الأميركي بنقل السفارة إلى القدس البنى الرمزية والأسطورية والدينية من حيث إنها ترجمت هذه الخلفيات الغامضة والبدائية التي تسبق ظهور العقل الحديث، إلى فعل مادي ملموس ومتعجل، أي فتح باب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وحسم إحدى القضايا الشائكة التي اتفقت الأطراف على تسويتها من خلال التفاوض والحوار.

كما أن القرار يفتح الباب للتنكر لحقوق اللاجئين في ممتلكاتهم. ولا تقف خطورة هذا القرار عند هذا الحد.

بل هو يمنح إسرائيل أيضاً «صك غفران» جديد لحل بقية قضايا الوضع النهائي على طريقتها ووفق مفهومها للسلام، وبالذات قضية اللاجئين الفلسطينيين والحدود والمياه والمستوطنات والسيادة وما دون ذلك من القضايا، باختصار فإن قرار ترامب رفع عن إسرائيل حرج التصرف الأحادي .

- هذا إذا كانت إسرائيل تشعر بذلك - ومنح شرعية لتصرفاتها وقراراتها الأحادية في القضايا التي ترى ضرورة حسمها من جانب واحد، وفق تصورها لأمنها القومي، لقد منح قرار ترامب القوة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الاعتراف والشرعية والأخلاقية، حيث اعترف بنتائجها على الأرض، وفى الواقع دون النظر إلى القرارات الدولية والأممية التي لا تزال حتى الآن مرجعية التسوية والمفاوضات.

وبالإضافة إلى ذلك فإن قرار ترامب يفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لتنفيذ وتحقيق الحل الإقليمي كبديل لحل الدولتين، وهو الحل الذي يتجاهل الشعب الفلسطيني وقيادته، ويقلص حل الدولتين إلى جيوب وكانتونات صغيرة ومعزولة للفلسطينيين، ولكنها منفتحة على الخارج أي المملكة الأردنية الهاشمية فيما يتعلق بالضفة الغربية، ومصر فيما يتعلق بقطاع غزة عبر صيغ اقتصادية أو غير اقتصادية مختلفة.

لقد افتتح هذا القرار مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث لم يعد في مقدور الولايات المتحدة بعد الآن أن تحظى بدور الوسيط النزيه أو الراعي لعملية السلام بل هي شريك منحاز لإسرائيل شكلاً وموضوعاً.

الدول العربية والشعب الفلسطيني مطالبين أكثر من أي وقت مضى بإعادة تقييم الاستراتيجيات المتبعة حتى الآن، والبحث جدياً في تعظيم وتعزيز القوة المعنوية والمادية والدبلوماسية في إطار الاختيار الجديد، واستناده إلى قوة فعلية على الأرض في المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية العربية.

ولن يتأتى ذلك إلا عبر المقاومة الذكية والطويلة للاحتلال وإجباره على دفع الثمن بكل الوسائل والأساليب التي أصبحت جميعاً مشروعة في مواجهة الموقف الراهن.

 

Email