جريمة مسجد الروضة ضد الإنسانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

معادن الأمم والشعوب كما الأفراد، لا تظهر حقيقتها وصلابتها وأصالتها في أجلى صورها إلا مع الأحداث الجسام التي يفترض المجرمون أن مثل هذه الأحداث تهددها وتخيفها وتحيد بها عن الطريق الذي سلكته، طريق العمران واستئناف المسار الحضاري والتنمية والاستقرار، والشعب المصري والأمة المصرية والدولة المصرية ليسوا استثناء من ذلك، حيث أفضت الجريمة الإرهابية في مسجد الروضة في سيناء إلى اصطفاف كافة المواطنين بمختلف فئاتهم ومؤسسات الدولة في مختلف المجالات لاحتواء تداعيات هذا الإجرام والحؤول دون تحقيق أهدافه المأمولة من قبل الآثمين وتأكيد صلابة ومناعة النسيج الوطني وقدرته على خلق استجابة بمستوى التحدي الذي يمثله الإرهاب.

وإذا كان هذا الحادث الإجرامي والوحشي مثل باتفاق المتخصصين في الجماعات الإرهابية نقلة نوعية في استراتيجيات هذه الجماعات من حيث أنه استهدف المصلين الآمنين وهم بين يدي الله، فإن الشعب المصري والدولة في مواجهتها للإرهاب قد سطرا مرحلة نوعية أيضاً في التلاحم والتماسك والانصهار الوطني في مواجهة القتلة وأعداء الحياة والإنسانية.

من المؤكد أن الصدمة التي اهتزت لها مشاعر المصريين والتي سرعان ما أفاقوا منها، تجد تفسيرها في ثقافة المصريين ونمط تدينهم وفهمهم للدين، فهم أي المصريون عبر تاريخهم لم يعرفوا التعصب والمذهبية بل وعرفت المساجد والكنائس ودور العبادة احتراماً وتوقيراً وحظت بالقداسة والحصانة باعتبارها بيوت الرحمن التي يرفع فيها اسمه وتوفر لمن يأوي إليها الأمان والسكينة، يعرف المصريون بلا شك أن دور العبادة في بلاد غير بلادهم لم تسلم من التدمير والتخريب والعدوان في العراق وسوريا وباكستان، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يتوقعون أن تنتقل هذه العدوى إلى مصر وأن تحظى بيوت الله بنصيب من هذا القتل والتخريب وانتهاك المقدسات والحرمات.

غير أن واقع الحال يشير إلى أن ثمة ما يمكن أن نسميه «الأممية الإرهابية» التي تتولى التنظير للإرهاب والتفكير في أدواته ومجالاته ودعم أساليبه وتحديدها وكذلك دعم الإرهاب وتبادل الخبرات بين تنظيماته وجماعاته باعتبار ذلك واجباً وعبر هذه الشبكة المؤثمة من العلاقات تنتقل الخبرات الإرهابية من مكان لآخر سواء عبر التواصل بين هذه الجماعات أو من خلال اقتداء بعضها بالبعض الآخر واعتبار ما تقوم به الجماعات الأخرى نموذجاً يحتذى.

تنهل الجماعات والتنظيمات الإرهابية باختلاف مستوياتها من مصدر واحد، ألا وهو ما يمكن تسميته «بالمدرسة الإرهابية العليا» التي تجسدها باستحقاق «جماعة الإخوان»، ذلك أن هذه الجماعة هي التي دفعت إلى الفضاء الإرهابي بمفاهيم تمثل حتى الآن القاسم المشترك الأعظم بين الجماعات الإرهابية والتكفيرية مثل مفهوم «الحاكمية» ومفهوم جهالة المجتمع وتكفيره على يد سيد قطب المؤسس الثاني لجماعة الإخوان، والأول يقصد به أن الحكم لا يكون لقوانين الدول، أما الثاني فيقصد به أن المجتمعات الحالية هي مجتمعات جاهلية على غرار الجاهلية الأولى التي سبقت وعاصرت ظهور الدعوة الإسلامية.

وبين هذين المفهومين تراوحت استراتيجية الإخوان وفق الظروف والملابسات التاريخية والسياسية، وفسرت كلاهما وفق مراحل «الاستضعاف والتمكين» وتنوعت في كل من هذه المراحل أدوات وأساليب العمل وتكتيكاته ولكنها لم تخرج من أسر هذين المفهومين اللذين يبرران العنف والإرهاب ضد الدولة والمجتمع.

تشدد الكثير من المقاربات على أهمية ثلاثية الديمقراطية والتنمية وتجديد الخطاب الديني باعتبار أن غياب هذه الثلاثية يفسر انتشار الإرهاب وأن حضورها في المجتمع يحاصر الإرهاب ويحارب انتشاره وامتداده.

ولا خلاف على ضرورة هذه الثلاثية وأهميتها في هذا السياق أي سياق محاربة الإرهاب أو سياق الأهداف التي ينشدها أي مجتمع يتطلع إلى اللحاق بالعصر ومواكبة التطور الإنساني والعلمي والثقافي، بيد أن ذلك يستوجب ضرورة تفسير ظهور الإرهاب في مجتمعات ديمقراطية ومتقدمة واستطاعت أن تفصل بين الدين والسياسة أو بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، علماً بأن الإرهاب المقصود لا يقصد به الإرهاب الوافد من العالم العربي والإسلامي أو بعض أبنائه بل من قبل بعض أبناء هذه المجتمعات المتقدمة الذين ولدوا وعاشوا وتعلموا في السياق الثقافي والحضاري لهذه المجتمعات، ولم تستطع هذه الثلاثية الحؤول دون هؤلاء ودون اللحاق بعضوية بعض هذه التنظيمات الإرهابية.

إن جريمة مسجد الروضة، ليست جريمة فحسب ضد المسلمين أو ضد المصريين أو ضد المسلمين المتصوفة بل هي جريمة ضد الإنسانية، ضد الإنسان الذي كرمه الله وجعله خليفته في الأرض وحمله الرسالة التي تنوء بحملها الجبال، رسالة إعمار الأرض ومواصلة الحياة على ظهرها، فالإنسان هو «العالم الصغير» الذي تتجلى فيه صفات التنوع والاختلاف والتفاوت والعقل ومختلف مظاهر الحياة ويتحمل مسؤولية الحفاظ على الدين والنسل والعرض والمال والنفس، في إطار الإنسانية الرحبة التي ننتمي إليها جميعاً والتي خرج عليها أولئك الإرهابيون والقتلة، خرجوا على أديانها وأعرافها وميراثها الثقافي والأخلاقي ووضعوا أنفسهم فوق الآخرين ومنحوا أنفسهم حق الحياة والموت على الآخرين الذين لا يشاطرونهم معتقداتهم.

لن يتمكن الإرهابيون من تشتيت جهود الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية في محاربتهم والقضاء عليهم، لأن هذه الجهود تستند إلى التأييد الشعبي والتماسك الوطني ولأن الإرهابيين فقدوا الحاضنة الشعبية إلى الأبد، لشهداء الروضة الأبرار الجنة وللقتلة العار في الدنيا والآخرة.

Email