بمناسبة ذكرى «وعد بلفور» المئوية في الثاني من نوفمبر الجاري، يمكننا أن نكتشف- ودون جهد كبير- أن الخطاب الدولي عامة حول حقوق الإنسان والتعددية والإنسانية المشتركة والمساواة والكرامة الإنسانية والاعتذار عن الاستعمار وعن الجرائم ضد الإنسانية.. إلخ، هذه المفاهيم والمفردات، يقع ضمن إطار الانفصال عن الواقع وتناقضه مع الممارسة السياسية الفعلية.
رسالة المملكة المتحدة البريطانية المضمنة في الاحتفاء «بالعار» والوعد غير الحق لبلفور وبرئيس وزراء إسرائيل في هذه المناسبة، لا يعدو في أي توصيف أو تشخيص أو تحليل سوى أن يكون «صفعة» للخطاب الدولي برمته حول المساواة والكرامة والإنسانية.
فهذه الرسالة تقول وبوضوح، فلتذهب دعاوى الاعتذار عن الاستعمار إلى الجحيم، وكذلك أصحابها، وإنه على العكس من ذلك ينبغي رد الاعتبار للاستعمار والآباء المؤسسين «للمنظومة الكولونيالية».
يضاف إلى ذلك أن مضى قرن من الزمان على هذا الوعد اللا إنساني واللا أخلاقي، يكشف بجلاء عن الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني، تلك الجرائم التي تقع في صلب جريمة التطهير العرقي، وفق وصف المنظمات الدولية والحقوقية، بل وفق وصف المؤرخين الجدد في إسرائيل ذاتها .
وعلى رأسهم المؤرخ المنفي واللاجئ في المملكة المتحدة البريطانية الإسرائيلي «إيلان بابيه»، الذي يسهم ويشارك في حملة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل وجامعاتها.
يقرأ التاريخ عادة لاستخلاص الدروس والعبر وتصحيح الأخطاء- وإن رمزياً- بهدف شق مجرى جديد للتاريخ الإنساني أو على الأقل تخليص هذا التاريخ من معوقاته ومآسيه ومساندة ضحاياه والشعوب، التي عانت ممن صنعوا هذا التاريخ، في الحالة البريطانية يقرأ العكس من ذلك تماماً، أي تخليد هذا التاريخ والموافقة على نتائجه، بل والفخر بها وتأكيد ذكرى من قاموا بصنعه والإشادة بهم وتأييد مضمون هذا الوعد اللا إنسانى.
وذلك بالرغم من أية قراءة عابرة لمضمون هذا الوعد، يلحظ المراقب بوضوح العنصرية والاستعلائية والنظرة الاستعمارية، التي يتم من خلالها رؤية الشعب الفلسطيني صاحب الأرض عبر التاريخ، فهذا الشعب هو في نظر الوعد مجرد «الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين» في سياق الزعم بأن وعد بلفور لن «ينتقص الحقوق المدنية والدينية» لهذه الطوائف.
والملاحظة الأولى أن الشعب الفلسطيني صاحب الأرض لا يرقى إلى مرتبة الشعب أو الأمة التي تستحق أن توصف بذلك، وأن يكون له كينونة سياسية تؤهله لمرتبة الدولة الوطنية، باعتبارها الوعاء الذي يتحقق فيه وحدة الشعب واستقلاله وهويته، أما الملاحظة الثانية.
فإن حقوق هذه الطوائف غير اليهودية مجرد «حقوق مدنية ودينية» أي أنها ليست حقوق سياسية يترتب عليها حق تقرير المصير، أي التوحد في إطار تشكل سيأسى على النمط الحديث أي الدولة، أما الملاحظة الثالثة والأخيرة.
فإن هذه الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين وفق تعبير الوعد، بما أنها لا تمثل شعباً أو أمة، وبما أنها لا تمتلك سوى حقوق مدنية ودينية، فإنها لا تمثل سوى مجموعة من «السكان المحليين» الذين يصلحون أن يكونوا «موضوعاً» لدراسة عرقية إثنية وأنثروبولوجية تخضع لمنطق «الطرافة والغرائبية الشرقية»، لأنها في مرتبة أدنى من الذات الأوروبية الاستعمارية.
جريمة «بلفور» في واقع الأمر ليست بريطانية فحسب رغم أن المملكة المتحدة هي التي اضطلعت بالدور الحاسم في تنفيذه، وكما لو كانت مفوضة عن القوى الكبرى آنذاك في تنفيذ هذه الجريمة، بل هي جريمة غربية بامتياز بمعنيين، الأول أن الوعد قد حظي بموافقة مختلف القوى الغربية الكبرى المؤثرة في المشهد الدولي آنذاك، حظي بموافقة الولايات المتحدة الأميركية برئاسة وودرو ويلسون رغم مبادئه الأربعة عشر المعروفة في عام 1919.
وكذلك موافقة إيطاليا وفرنسا عام 1918، ووافق عليه المجلس الأعلى للحلفاء في مؤتمر سان ريمو من خلال الموافقة على انتداب بريطانيا على فلسطين، كما حظى بموافقة عصبة الأمم في 24 يوليو عام 1922 ودخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر عام 1923.
أما المعنى الثاني الذي يمنح الوعد طابعاً غربياً، فيتمثل في أن المملكة المتحدة ووزير خارجيتها آنذاك، قد عبرا في هذا الوعد عن التيار السياسي والثقافي والفكري السائد آنذاك في العديد من البلدان الأوروبية الناجم عن التداخل بين اليهودية وبين بعض الطوائف المسيحية الغربية، التي ترى في عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولتهم هو بمثابة الخلاص وعودة المسيح.
وهي أفكار تأثر بها ساسة ورجال دولة أوروبيون كان من بينهم نابليون بونابرت، الذي اقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين قبل بلفور بثمانية عشر عاماً.
إن مناصرة القوي أي «إسرائيل» في هذا السياق تخلو من أي نبل أو فروسية، بل تخلو من أية قيمة إنسانية حقيقية، فهي تزكى قانون الغاب وتجاهل الحقوق والمبادئ المستقرة في ضمير العالم، على العكس من ذلك فإن مناصرة الضعفاء والوقوف بجانبهم أي الشعب الفلسطيني ينخرط في إطار الأخلاق والعدالة وترسيخ المبادئ الأخلاقية والإنسانية والتحضر، وتفتح الطريق لعالم تسوده هذه المبادئ.