ثقافات يجب أن توأد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تزخر المجتمعات الإنسانية بثقافات متنوعة، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، بعضها نافع يسهم في رقي الإنسان وتنمية الأوطان وبناء الحضارات، وأخرى ضارة تهدم وتُفسد وتقتل وتُرعب وتنحدر بالإنسان وتهدد الأوطان، فالثقافة سلاح ذو حدين، لأنها مفاهيم وتصورات تشكل الوعي والعقول، ومُحدِّدات ومُوجِّهات للفكر والسلوك، وتتحدد بوصلة الثقافة سلباً أو إيجاباً بحسب نوع هذه التصورات والموجهات.

إن الثقافة الإيجابية راقية في مضامينها، نافعة مفيدة في آثارها، تنعكس في عقل حكيم، وسلوك قويم، وتحافظ على الضروريات الكبرى، وتعزز المصالح العليا، وتدفع المفاسد والفتن والشرور، وتنشر قيم الوسطية والاعتدال، بخلاف الثقافات السلبية التي تحمل الأخطار والمهددات للأفراد والمجتمعات والدول، وهي كثيرة ومتنوعة، ساهمت في نشرها عوامل مختلفة، من أبرزها التيارات المنحرفة والأفكار الدخيلة.

ومن الثقافات السلبية التي يجب وأدها ثقافة الغلو في التكفير التي أفرزت التيارات الإرهابية، والناتجة عن خلع لباس التقوى والورع، والجرأة في اتهام الآخرين بالكفر، وسوء الظن بهم، واحتقارهم، واستسهال ذلك دون وازع، مع التحلي بالجهل والتعالي والجرأة في الفتوى والخوض في الدين بالأفهام المغلوطة، ومن أكثر من نشر هذه الثقافة في العصر الحديث جماعة الإخوان، وبالأخص سيد قطب الذي ملأ كتبه بتكفير الحكومات والمجتمعات، حتى تأثر بذلك من تأثر، فنشأت الجماعات التكفيرية المسلحة، كالتكفير والهجرة والقاعدة وداعش وغيرها، والتي تقمصت فكر سيد قطب، وبنت على التكفير استباحة الدماء، وعملت على استهداف الدول والشعوب.

ومن الثقافات السلبية كذلك ثقافة الخروج على الحاكم، وإسقاط شرعيته، وقد يرتبط ذلك بفكر التكفير، كما هو حال كثير من الجماعات التكفيرية المسلحة، وقد لا يرتبط بالتكفير، بل بأسباب وأفكار أخرى، فجماعة جهيمان العتيبي الذين اقتحموا الحرم المكي عام 1979 استباحوا الخروج على الحاكم مع أنهم لم يكونوا يكفرونه، وقد نشر جهيمان أفكاره في رسائله، فأجاز الخروج على الحاكم بدعوى الظلم بزعمه، وتجرأ على بعض الأحاديث الصحيحة التي تمنع الخروج على الحاكم وضعَّفها، مع أنها في صحيح مسلم، واشترط أن يكون الحاكم من قريش، مع أنه ليس شرطاً في حكام الدول، وفي صحيح البخاري: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي»، ومن الأسباب العجيبة لخروج جهيمان وجماعته ادعاء أحدهم أنه المهدي المنتظر، والتأثر بالرؤى والمنامات، فجهيمان مع جهله بالعلوم الشرعية ادعى أيضاً أنه مفسر أحلام، وممن غذَّى هذا الباب أيضاً الخميني، فعمل على إسقاط شرعية الحكومات في خطبه وكتبه، ودعا للخروج عليها، وروَّج لمبدأ تصدير الثورات، وعمل أتباعه على تكوين الميليشيات المسلحة في العديد من الدول لإسقاطها والإضرار بها.

ومن الثقافات السلبية كذلك ثقافة التحزب والتكتل، وتمزيق المجتمع إلى أحزاب، كل حزب يدعو لنفسه وأجنداته، ويكتل حوله الأتباع، ويروج لأفكاره، ويسعى وراء مصالحه، ويوالي زعماءه، حتى يصبح دولة داخل دولة، وقد تكون هذه الأحزاب سرية، تعيش في الظلام، وتحيك المؤامرات بيد الغدر والإجرام، والعاقل يحرص على اجتناب التكتلات والتحزبات، والانضواء تحت راية الحاكم، والاجتماع تحت مظلته.

ومن الثقافات السلبية التي كادت أن تحرق الوطن العربي ثقافة الثورات، والتحريض على الحكومات، وإثارة المجتمعات للخروج إلى الشارع، ما يضر بالأمن والاستقرار، وينشر الفوضى والاضطراب، ويعطل المصالح، ويضعف الدولة، ويقسم المجتمع، ويفتح الباب للمغرضين والجهات المعادية لتأليب الأوضاع وتأجيجها، وما يتبع ذلك من نشوب صراعات داخلية، وحروب أهلية، وتمكين الجماعات الإرهابية، والواقع اليوم خير شاهد على ذلك، وقد تبنت هذه الثقافة تيارات عدة كالإخوان وغيرهم، كما تبناها مثقفون كُثر، وامتلأت كثير من الكتب الفكرية والثقافية بهذه الثقافة السلبية.

ومن الثقافات التي ينبغي الحذر منها أيضاً ثقافة الانفلات والتحرر من القيم والموروثات، والتمرد عليها، نتيجة التأثر والذوبان في ثقافات أخرى، ما يهدد الهوية المحلية، ويفكك ثقافة المجتمع وأخلاقياته وعاداته وتقاليده، وينشر الأفكار والعادات الدخيلة، ويقابل ذلك ثقافة سلبية معاكسة، وهي الجمود على كل موروث قديم ولو ظهر خطؤه وضرره، أو رفض كل ما هو جديد ولو ظهر صوابه ونفعه، وهذا التضاد بين الطرفين وتعصُّب كلٍّ لرأيه ومحاولة فرضه على المجتمع سبب نشوء صراعات ثقافية عقيمة، وربما يتطور الأمر إلى تحزبات وتكتلات وتنازعات.

ومن الثقافات السلبية التي يجب أن توأد الثقافة الطائفية التي تغذي روح الحقد والانتقام والتعصب، وتهدد نسيج المجتمع الواحد، وتؤلب كل طرف على الآخر، وتستعيض عن لغة الحوار بلغة الحديد والنار، ولا يشك منصف بأن إيران اليوم هي من أكبر عوامل تغذية الطائفية في العالم العربي والإسلامي، وكذلك داعش هي من التيارات الطائفية، وقد تعدَّى شرها الجميع.

إن هذه الثقافات السلبية يجب أن تنتهي، ليستتب الأمن والاستقرار، ويسود السلام والوئام، وهنا يأتي دور العلماء والمثقفين وأصحاب الأقلام بتصحيح المفاهيم، وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال، وتكريس الهوية الوطنية، كما يأتي دور الجامعات وبرامج الدراسات العليا والمراكز البحثية والثقافية، بوضع استراتيجيات لتأليف البحوث والكتب وإقامة الندوات والمؤتمرات التي تعالج هذه الثقافات السلبية معالجة سديدة رشيدة، لحماية الناشئة من أضرارها ومخاطرها، والاستفادة من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم في متناول أيدي الجميع، وأضحت ساحة كبرى لانتشار الثقافات، ما يستلزم استغلالها في نشر الثقافة الإيجابية والتصدي للثقافات السلبية.

Email