تصريح بلفور ومقالة جونسون

ت + ت - الحجم الطبيعي

احتفل بوريس جونسون وزير الخارجية البريطانية الحالي بذكرى التصريح المنكود؛ الذي أصدره سلفه آرثر جيمس بلفور، بطريقة توحي بإخلاصه للعقلية الاستعلائية، والمراوغة الدبلوماسية، والصيغ حمالة الأوجه؛ التي اشتهر بها الساسة الإنجليز.

بعد مئة عام بالتمام، وفي الغرفة ذاتها التي خطّ فيها بلفور رسالته إلى اللورد روتشيلد، معلناً فيها «تعاطف حكومة جلالته مع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين»، جلس جونسون وكتب مقالة نشرتها صحيفة يديعوت الإسرائيلية (30/‏10/‏2017)؛ تضمنت أفكاراً ومواقف لا تختلف كثيراً عن تلك التي كان عليها الجد بلفور.

لم تنم مقالة الوزير الوريث عن أي شعور بالذنب أو نوازع اعتذارية من الفعلة البريطانية، التي ساقت فلسطين، شعباً وأرضاً وعمراناً ومحيطاً إقليمياً، إلى عذابات وويلات يصعب حصرها. أكثر من ذلك تبجحاً على الخلق وتنطعاً على الحقائق، أن جونسون صدر مقالته بالتعبير عن إيمانه بما ورد عن بلفور؛ الذي كان بنظره «ضرورياً لخلق أمة عظيمة، لأن إسرائيل تغلبت منذ قيامها على العداء المرير من جيرانها، وأصبحت ديمقراطية ليبرالية ذات اقتصاد نموذجي في منطقة عانى فيها الكثيرون من حكم تسلطي، وبرزت دوماً مجتمعاً حراً».

لا ندري عن أية عظمة يتحدث مهندس السياسة الخارجية البريطانية في كيان وجد بالسيف وعاش عليه منذ ما قبل لحظة الميلاد، وربما ظل خائفاً يترقب إلى يوم أجله، ذلك لإدراك عقله الجمعي الظاهر والباطن بحجم الجرائم التي اقترفها، ومدى إصرار ضحاياه على ملاحقته واسترداد حقوقهم منه. لا يلحظ جونسون أن تصريح سلفه حرض اليهود على حل مشكلتهم بالانعزال عن مجتمعاتهم ومواطنهم الأم، وأنه حول شطراً منهم من مواطنين أقحاح في هذه المواطن إلى مستوطنين مجرمين وقتلة في بلاد الفلسطينيين والعرب.

من الواضح أن جونسون، شأنه شأن سلفه بلفور، يستبطن صورة ذهنية سلبية للعرب «المتسلطين»، وهذا يثير السؤال عما دفع السياسة البريطانية الحكيمة وظهيرها في عالم الغرب المتحضر، إلى استزراع إسرائيل في منطقة القلب من هذا المحيط، الشرير بزعمهم؟ لماذا تم الزج بـ«اليهود العظماء» في هذا المستودع، عوضاً عن الحلول الديمقراطية التي طرحت لمعالجة أوضاعهم؛ والتي تكفلت لهم بتحقيق مكانات رفيعة في معظم الدول التي يحملون مواطنتها؟ بتصريحه وبالسياسات التي ترتبت عليه، هل كان بلفور يتوخى تقديم خدمة جليلة لليهود، أم تراه استجاب لكراهيته لهم بالسعي إلى التخلص منهم إلى خارج الرحاب الأوروبية؟

يتحدث جونسون عن المعجزة الإسرائيلية، ويفاخر بدور بلاده في صناعة هذه الدولة التي يصفها بـ«الاستثنائية»، وتوفير وطن آمن محمي للناس المضطهدين. ترى هل يعيش الوزير البريطاني في كوكب آخر، أم أن على عينيه غشاوة، حتى إنه لا يسمع ولا يرى شيئاً عن حال إسرائيل ومعضلة مستوطنيها المزمنة مع الأمن؟ حري بالرجل، وبدولته التي كانت عظمى، التساؤل اليوم عن أيهم أكثر استشعاراً للأمن والطمأنينة والاستقرار، هل هم اليهود في جهات الدنيا كلها أم اليهود في إسرائيل؟

Email