شهد العالم موجات متعددة لنشأة الدول الوطنية وزيادة عددها من خمسين دولة عند إنشاء الأمم المتحدة إلى ما يقرب من مئتي دولة حتى الآن؛ الموجة الأولى لنشأة هذه الدول بدأت بانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية؛ الإمبراطورية البريطانية والفرنسية بانتهاء الحرب العالمية الثانية، واستقلال العديد من الدول.
أما الموجة الثانية لنشأة الدول فقد أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانفصال العديد من الدول عنه، وكذلك انهيار النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية وتفكيك الاتحاد القسري لدول مثل يوغوسلافيا الاتحادية، أما الموجة الثالثة فتتمثل في المسارات المتناقضة للعولمة.
ففي الوقت الذي توحي فيه مظاهر الأمور بتوحيد العالم والثقافات والحضارات وحرية انتقال الأشخاص والسلع والمنافع، يوحى باطنها بالبحث عن الهوية والقومية والحدود والابتعاد عن التعدد والتنوع والانصهار في هويات كبرى جامعة.
ومما لا شك فيه أن الدول التي نشأت من رحم الموجة الأولى أي من خلال تطبيق حق تقرير المصير والاستقلال عن الدول الاستعمارية، كانت عنوان مرحلة مهمة في الطريق إلى إنهاء الاستعمار والعنصرية والتمييز بين الأمم.
أما الدول الناشئة نتيجة الانفصال عن الدولة الأم والاستفتاءات التي رتبت هذا الانفصال فيتفاوت حظها من القبول والرفض من حالة لأخرى، فحالة جنوب السودان مثلاً تختلف عن حالة إقليم كتالونيا في إسبانيا أو إقليم كردستان في العراق، فلم تحظ نتائج الاستفتاء في هذين الإقليمين بدرجة القبول التي حظي بها جنوب السودان.
في إقليم كتالونيا وإقليم كردستان ثمة مفارقة مهمة جديرة بالتأمل، ففي حين أن إسبانيا الديمقراطية لجأت في مواجهة نتائج الاستفتاء إلى القوة البوليسية، نجد أن العراق ذات الميراث التسلطي القومي أو الطائفي اكتفت حتى الآن بالتمركز حول عدم الدستورية.
الحالة الكتالونية، دالة كبرى في الحالة الأوروبية ككل حيث تتعدد الأقليات القومية واللغوية في الفضاء الأوروبي وفي ظل وجود الدول المركزية الأوروبية، ذلك أن الاعتراف بنتائج الاستفتاء في حالة إقليم كتالونيا، سيفتح الباب على مصراعيه لأن تحذو أقليات قومية ولغوية أخرى حذو كتالونيا، في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وغيرها من الدول، فثمة في إسبانيا إقليم الباسك، وفي فرنسا ثمة جزيرة كورسيكا التي تنازلت عنها إيطاليا لفرنسا والتي تطالب بالاستقلال.
ثمة ما هو أخطر على البناء الأوروبي عموماً، ونقصد به صعود تمثيلية اليمين المتطرف والشعبوي في العديد من بلدان القارة كفرنسا وألمانيا والنمسا وكذلك بعض دول شرق أوروبا، ويتركز خطاب اليمين المتطرف والشعبوي الأوروبي حول مخاطر الاتحاد الأوروبي على القوميات والهويات الأوروبية، وينزع نحو العزلة والانعزال والعودة للأصول القومية الأوروبية وإحياء الانتماءات الأولية السابقة على وجود ونشأة الاتحاد الأوروبي.
وقد وجد هذا الخطاب آذاناً صاغية لدى العديد من الفئات بين الأوروبيين خاصة أولئك الذين أضيروا من العولمة وفقدوا وظائفهم وتقلصت الحماية الاجتماعية المقررة لهم في فترات سابقة.
في جميع الأحوال فإن خطاب التعدد والتنوع باعتبارهما مصدر قوة وغنى وثراء يشهد تراجعاً حاداً على الصعيد الدولي ليفسح المجال لخطاب آخر أكثر التصاقاً بالذات القومية وأكثر تجاهلاً للآخرين هنا أو هناك وأكثر انعزالاً وأقل انفتاحاً ويرتكز على السردية القومية الضيقة.
وليس ثمة حل سحري للمسألة سواء كان ذلك في إقليم كردستان أو إقليم كتالونيا، ففي جميع الحالات يبقى الحوار والتفاوض هما الحل الأمثل والأفضل؛ لأن اللجوء إلى القوة سيعمق الروح الانفصالية ويعزز الشعور بالمظلومية ويفتح الباب للعنف والعنف المضاد، وتغيير طبيعة العلاقات بين الدول المركزية وبين الأقاليم التي تضمها والأقليات القومية واللغوية التي تدخل في تكوين هذه الدول.
بحيث تصبح هذه العلاقات أكثر عدلاً وإنصافاً بدلاً من تلك العلاقات القائمة الآن ومنذ فترة طويلة سابقة والتي وصفها بعض الخبراء منذ سنوات عديدة بأنها تدخل ضمن مفهوم «الاستعمار الداخلي» بين المركز والأقاليم والقوميات الأخرى وهو المفهوم الذي حظي بنقد الكثيرين وقتئذ، غير أن ذلك لا يقلل من ضرورة إعادة هيكلة هذه العلاقات على نحو جديد مغاير لما هي عليه الآن.