الخطاب الغربي ومسلمو بورما

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعاني الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية من مشكلات بنيوية عدة، يبرز من بينها على وجه الخصوص مشكلة «ازدواجية المعايير» في الممارسة والتطبيق، والانتقائية والانحياز، يحاول الخطاب الغربي السياسي والحقوقي إبعاد شبهة الازدواجية والانتقائية، وتبريرها، ولكن يصطدم هذا المسعى بوقائع وأزمات تعزز من وجود هذه الازدواجية والانتقائية ولا تنفي وجودها أو تقلص منه.

وبداية فإن ازدواجية المعايير في الممارسة والتطبيق تشير إلى مبادئ تتضمن تقويماً وأحكاماً مختلفة لمجموعة من المفاهيم في السياق ذاته أي سياق انتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية، أي تفتقد هذه المبادئ الوحدة في التطبيق رغم تماثل الظواهر والوقائع والانتهاكات، ويفضي ذلك إلى نوع من التحيز والانحياز لتشخيص موقف معين في السياق المعني واستبعاد تشخيص آخر رغم تماثل طبيعة الوقائع والظواهر.

وهذه النظرة تخل بأحد أهم المبادئ في القانون الحديث، لأنها تخل بمبدأ العدالة والحياد إزاء تطبيقها، هذا المبدأ الذي يقوم على أساس افتراض أن المعايير ذاتها ينبغي أن تطبق في جميع الأحوال المتماثلة، وبالنسبة لكل المجموعات من البشر بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو المذهب السياسي، ومن ثم فإن ازدواجية المعايير تعني التحيز للمصلحة والمصالح واعتبارات الأمن القومي للدول، وبالتالي تنحية المبادئ التي تطمح إلى أن تكون كونية، ومحاولة استنساخ صيغة مختلفة منها في التطبيق تلائم المصالح والمنافع بأكثر مما تتطابق مع المبادئ.

كما أنه من ناحية أخرى فإن ازدواجية المعايير وعدم اتساق المبادئ مع السياسات والأفعال، ليس بالضرورة صفة تكوينيه مرتبطة بالغرب، والتركيز على الخطاب الغربي من ثم يأتي نظراً لقدرة الغرب وتأثيره في مجريات الشؤون الدولية وامتلاكه الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية والعلمية التي تمكنه من إحداث الفاعلية والتأثير والتدخل، لكي يقترب الخطاب من الواقع، ولأنه أي الغرب من ناحية أخرى يطمح أن يكون خطابه كونياً وعالمياً وينسب له صفات الصلاحية والفاعلية والنموذج المؤهل لقيادة العالم وإصلاح أحواله.

وبالرغم من أن «ازدواجية المعايير» توضع في خانة الانتقاد والانتقاص من المعايير الغربية، فإن الوجه الآخر لهذا الشعار والذي كثيراً ما يتم تجاهله يتمثل في أن القائلين به يقبلون من حيث المبدأ وحدة المعايير وكلية المعايير، أي يقبلون بأن تكون ثمة معايير موحدة وكلية لإصدار الأحكام وتقويم الظواهر والوقائع، وتبنى سياسات ومواقف متماثلة إزاءها لا تعرف التمييز أو التحيز والانحياز ولا تتأثر بالمصالح، أو على الأقل تزاوج يبن المبادئ والمصالح بطريقة تقريبية خلاقة ومبتكرة.

في المقاربة الغربية لمشكلات الشرق الأوسط لم يستطع الغرب التخلي عن هذه الازدواجية أو الكيل بمكيالين، وتبقى القضية الفلسطينية وإسرائيل مثالاً واضحاً وجلياً ومستمراً حتى الآن، حيث لم تتمكن السياسات الغربية من تبني وحدة في المعايير في التطبيق العملي.

في الآونة الراهنة يبدو الموقف الأميركي والغربي عموماً من المذابح والمآسي التي يتعرض لها المسلمون في بورما والتنكر لحقوقهم في المواطنة وحرية الاعتقاد موقفاً متدنياً وخجولاً ومتردداً، ولا يرقى إلى مستوى خطورة هذه الجرائم التي ترتكب من قبل الحكومة والجيش وحتى بمعاونة رجال الدين من البوذيين والمتطرفين.

ويبدو ضعف هذا الموقف واضحاً إذا ما تذكرنا موقف الغرب من تطور الأحداث التي وقعت في إقليم تيمور الشرقية في عقد التسعينيات، إذ سارع الغرب إلى تقديم كل أشكال الدعم المعنوي والمادي والدبلوماسي لهذا الإقليم الفقير وشجعه على الانفصال عن إندونيسيا وتشكيل دولة مستقلة عبر إقرار حق تقرير المصير في الاستفتاء الذي جرى في عام 1999، أصبحت تعرف بجمهورية تيمور الشرقية الديمقراطية.

ورغم الاختلاف بين الحالتين أي حالة مسلمي بورما وإقليم تيمور الشرقية سواء من حيث المطالب أو من حيث درجة العنف والضحايا، فإن المقارنة تذهب في اتجاه ازدواجية المعايير وغلبة الرهانات الاستراتيجية ورهانات المصالح على حساب المبادئ.

* كاتب ومحلل سياسي مصري

Email