الحياة في سبيل الله

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ مطلع السبعينيات والأمة الإسلامية تعيش حالة من التخبط جراء المفاهيم المغلوطة التي أوجدها لنا رجال الدين ممن روجوا لأفكار تحمل غلواً كبيراً في الدين، وحاول هؤلاء الدعاة خداع المجتمع بشعارات (صحوة الضمير، والإسلام هو الحل)، وغيرها من الشعارات التي كان هدفها السيطرة على عقول المسلمين، وإيهامهم بأنها صحوة إلا أنها في الحقيقة سبات عميق يحتاج إلى ألف صحوة من بعده لتعيد لنا ما فقدناه جراء هذه الحركة وما شابهها بالفكر والمنهج.

من بين أهم المفاهيم التي روجوا لها زوراً وبهتاناً، مفهوم «الموت في سبيل الله»، هذا مفهوم عظيم أوجده الله تعالى في دينه «الإسلام» للدفاع عن الدين والأرض والعرض، ومكافأة من يضحي بنفسه مقاتلاً في سبيل الله الخلود بالجنان، إلا أن الاستغلال المغلوط لهذا المفهوم أوجد لنا ما يعرف بالذئاب المنفردة ممن يلبسون أحزمة ناسفة لتنفيذ عمليات انتحارية بحق الأبرياء، وروجوا لها مراراً وتكراراً وأسموها «عمليات جهادية» جزاؤها الحور العين وجنات تجري من تحتها الأنهار.

المصيبة ليست هنا فقط إنما بعملية غسل العقول والتي اتبعوها لتثبيت أفكارهم في عقول المجتمع، وجعلهم يستصغرون أي عمل يقومون به ابتغاء مرضاة الله ونشر تعاليمه أمام تلك التضحية التي يقوم بها أولئك المفجرون المرعبون، فأصبحت الأمة الإسلامية تعيش حالة من القناعة المفرطة بأن أعظم تضحية يقوم بها الإنسان تجاه دينه أن يوهب نفسه وروحه لله بصرف النظر ودون تفكر بالكيفية التي نوهب فيها أرواحنا، وفيما إذا كانت هذه العملية تخالف شريعة الله أساساً، أو أن جراءها تزهق أرواح أبرياء لا ذنب لهم.

وبفعل ما وصلت إليه عقول مجتمعاتنا أكاد أجزم أنني لو طرحت سؤالاً على الناس (أيهما أفضل الحياة في سبيل الله أم الموت في سبيل الله؟)، لكانت الإجابة دون تردد الموت في سبيل الله، فهي الحالة التي يضحي فيها المرء بروحه من أجل الله تعالى، ويلقى الجزاء الحسن من الله وينال شرف الشهادة، وهذا أمر جيد ومفهوم رائع إذا لم يُستغل سلباً ليصبح مبرراً للقتل والدمار وزهق الأرواح البريئة.

تاريخنا الإسلامي شهد الكثير من حركات الصحوة وما شابهها بالفكر والمضمون، وجميع الدعاة ورجال الدين الذين نادوا بالصحوة الإسلامية لم يكونوا يوماً إلا مناورين بارعين اجتزأوا جزءاً واحداً من مفاهيم الإسلام وهو «الموت في سبيل الله» وجعلوه هو السبيل الأوحد والأعظم في نيل الجنان، وألغوا في المقابل ما يُمكن للمرء من أن يقدمه لدينه ولله عز وجل وهو حي يرزق بعيداً عن القتل والاقتتال.

قلما نجد من ينادي بـ«الحياة في سبيل الله»، والتي تقتضي بموجبها أن يقوم المرء بنشر السعادة والراحة والطمأنينة في قلوب الناس ابتغاء وجه الله، أو ما يقوم به المرء من تسخير عقله لاكتشاف جديد يقلل من معاناة المتألمين، أو يُسخر وقته وجهده محاولاً إحياء نفوس أتعبها المرض، ويبذل قصارى جهده في إجراء عمليات جراحية معقدة لإحياء الأرواح بمشيئة الله.

هؤلاء ممن يهبون أعمارهم بأكملها في سبيل الله، ممن يسخِّرون جميع إمكانياتهم في مختلف المجالات لرفعة الإنسان، يجندون طاقاتهم لخدمة إخوانهم في الإسلام والإنسانية بأكملها، أولئك الذين يسهرون الليالي من أجل الخروج بفكرة تُسعد الملايين، أو قراراً يهوّن على المظلومين ويرد لهم حقوقهم، وحتى في أبسط الأعمال هناك الملايين ممن يهبون أنفسهم خدمة للإنسانية والبشرية، هؤلاء يتعبون يكدون ليلاً نهاراً من أجل مرضاة الله وللظفر بدخول الجنان، ولكن أمثال هؤلاء للأسف تقف في وجههم أفكار بعض الدعاة الذين يقولون عنهم أن هؤلاء وأمثالهم عملوا من أجل الدنيا ونالوا بها العز الدنيوي، ولكن الآخرة أجرها لا يناله إلا من يموت في سبيل الله، فذلك أعظم أجر.

لا يمكننا أن نُلغي جميع هذه التضحيات ونضعها على جنب ونعتبرها تضحيات درجة ثانية، وهي في الأساس تخدم الإنسان وترحم من في الأرض وتسهل معيشتهم، هؤلاء لا يختلفون قدراً ولا قيمةً أمام أولئك الذين يهبون أنفسهم وأرواحهم «بالحق» في سبيل الله في الدفاع عن أرضهم وعرضهم وعقيدتهم، وكل له مقدرته وكل له طريقته وأسلوبه في هذه الحياة للوصول إلى غايته بالوصول إلى الجنان.

معظم دعاتنا للأسف اجتزأوا هذه المفاهيم وأبعدوها عن الدين، وروّجوا مفاهيم مغلوطة، وجعلونا نستصغر أي عمل نقوم به في سبيل الله، وأقنعونا بسؤال بسيط يوجه لك كلما تفاخرت بأعمالك «ماذا قدمت أنت أمام تلك الأرواح التي تموت في سبيل الله؟»، وهنا تكمن المعضلة الكبرى.

فلم يخرج لنا من يفهمنا أن الرد المناسب هنا «أن هؤلاء الموتى في سبيل الله كان خيارهم واختيارهم أن ينتقلوا بين لحظة وضحاها إلى الباري الأعلى مقدمين له أرواحهم، ونحن بأفعالنا وما تصنع أيدينا وعقولنا نكد ونتعب عمراً كاملاً لنيل مرضاة الله».

نحن هنا لا ننكر التضحية الكبيرة التي يقوم بها المجاهدون في سبيل الله والمدافعون عن أرضنا وعرضنا، فهؤلاء لهم المنزلة الأعلى، لكن نحن ننكر أن يقوم هؤلاء الدعاة بتوجيه العقول نحو فكرة واحدة نحو هدف واحد وهو الموت في سبيل الله، مع أن الله أوجد لنا أعمالاً كثيرة نتقرب بها إلى وجهه الكريم أهمها أن نعمل ونجتهد في أعمالنا لرفعة الإنسان وتحسين معيشته، فلا نريد من يتهاون ويرى بأن هذه الأعمال أمور ثانوية ومنزلتها درجة ثانية، بل نريد من يوُجد لنا مفهوم «الحياة في سبيل الله» فبها نحيا ونرتقي وننشر ديننا كما أحب الله له أن يكون.

 

 

Email