لا علم كالتفكير...

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين أساتذة الاقتصاد الذين تركوا أثراً باقياً فى تحليل ظاهرة النمو الاقتصادي الأستاذ بول سترينتن (Paul Streen Ten) الأستاذ بجامعة اكسفورد والذي نشرت له كتب ومقالات عديدة عن هذا الموضوع فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

ولازالت كتاباته فى التنمية تمثل جزءاً مهماً مما نشر فى هذا الموضوع، حتى بعد أن انحسر الاهتمام بالظاهرة، وكاد يختفى تماما وصف جزء من العالم بالدول المتخلفة أو العالم الثالث. ولا يزال الرجل حياً يرزق وقد بلغ عمره مائة عام.

كنا نجد فى كتابات هذا الرجل فضلا عن وضوحها وسلاسة أسلوبها، نوعاً من الحكمة كنا نفتقده فى كتابات غيره، وعزوفاً عن فصل الجوانب الاقتصادية عن الجوانب الاجتماعية والسياسية، وهو ما حببنا أيضا فى كتابات عالم الاجتماع السويدي جنار ميردال (G.Myrdal) الذي حصل على جائزة نوبل بسبب هذه الكتابات والذي تعاون معه سترينتن فى إعداد كتاب ضخم من عدة مجلدات عن أحوال الجزء الفقير من العالم، ونشر باسم «الدراما الآسيوية» ( Asian Drama).

كان من حسن حظي أن قابلت هذا الرجل فى إحدى فترات الاستراحة فى مؤتمر عقد فى روما فى السبعينيات من القرن الماضي، وكان المؤتمر يناقش موضوعاً أثار حماس كثير من الاقتصاديين فى ذلك الوقت، واهتم به برنامج الأمم المتحدة للإنماء(UNDP) لفترة من الزمن .

وهو موضوع «إشباع الحاجات الأساسية» كبديل عن الاهتمام بزيادة متوسط دخل الفرد، على أساس أن متوسط الدخل قد يزيد دون أن يتحقق أي تقدم في إشباع الحاجات الأساسية (من غذاء وكساء ومأوى لائق)، كما قد يحدث العكس، أي ينجح المجتمع فى تحقيق تقدم ملموس فى إشباع الحاجات الأساسية من دون زيادة كبيرة فى متوسط الدخل، أو حتى من دون أي زيادة فى متوسط الدخل.

كان هذا الاهتمام من جانب بول سترينتن بإشباع الحاجات الأساسية بدلاً من متوسط الدخل، دليلاً آخر على سعة أفق الرجل وحكمته. تذكرت بول سترينتن بمناسبة قول صدر عنه ونحن جالسون في تلك الاستراحة عندما ذكر أحدنا أن الناس في العالم الثالث يحتاجون إلى زيادة الفرص المتاحة للقراءة، بنشر المكتبات العامة في بلادهم وتسهيل الحصول على الكتب.

قال سترينتن إننا قد نكون مبالغين في تقدير أهمية القراءة بالمقارنة بالتفكير.

فمرت سنوات بعد هذا ثم صادفت قولاً منسوباً للإمام علي بن أبي طالب، مؤداه أنه «لا علم كالتفكير» وأظن أنه يعني به شيئا قريبا من القول فإن التفكير قد يكون أهم من القراءة، وأن المرء لا يحقق نفعاً كبيراً إذا استغنى بالقراءة عن التفكير. التمييز بين العلم والتفكير، قد يكون قريبا من الفرق بين تحصيل المزيد من المعلومات وبين الاهتمام بالربط بينها واستخلاص ما بينها من علاقات.

الفرق بينهما يشبه الفرق بين شخص ثرثار وآخر قليل الكلام ولكنه قادر على اكتشاف حقائق مهمة من معلومات قليلة وربما كان هذا التمييز وراء الدافع لدى بعض مذاهب التعليم إلى الاهتمام بتعويد التلاميذ على طرق التفكير السليم أكثر من تلقينهم معلومات جديدة.

إن من سمات الحضارة الحديثة للأسف أنها تشجع على تحصيل معلومات جديدة أكثر مما تشجع على التفكير فيها والربط بينها. ذلك أن سمات التقدم التكنولوجي تسهل الحصول على المعلومات ونشرها، وكلما زادت كمية المعلومات المتاحة قلت فرص التفكير فيها واستخلاص مغزاها. أليس هذا ما يفعله جهاز التليفزيون مثلا بالجالسين أمامه؟ تتابع الصور والأخبار.

وتتخللها الإعلانات التي تحاول أن تحدث أثرها فى أقصر وقت ممكن، فلا يترك المشاهد إلا وهو في حالة إعياء تام. قد يكون قد اكتسب مما شاهده رغبات جديدة لم تكن لديه من قبل، أو معلومات عن سلع وخدمات لم يكن يعرفها، دون أن يكتسب أي معرفة بحقيقة ما يشاهده أو يسمع عنه، والآثار التي يمكن أن تترتب على استهلاك هذه السلع والخدمات.

الشاشة الصغيرة التي انتشرت فى السنوات الأخيرة خاصة في أيدي صغار السن، لها نفس سمات شاشة التليفزيون من قدرتها على الإثارة ونقل المعلومات، أكثر مما تسمح به من فهم واكتشاف العلاقات بين هذه المعلومات. وكلما زادت كمية المعلومات التي يمكن اكتسابها عن طريقها، يفقد المرء القدرة ( كما تضعف الرغبة) في الربط بين هذه المعلومات.

هل نحن إذن على أبواب عصر له نفس سمات الجيل الجديد من مشاهدي التليفزيون أو الممسكين على الدوام بتلك الشاشات الصغيرة التي لا يكفون عن العودة إليها خوفا من أن تفوتهم معلومة أو رسالة جديدة، أو أن يتأخروا في الرد على رسالة عاجلة، فلا يجدون في الغالب أكثر من إعلانات عن سلع يبحث بائعوها عن مشترين جدد، أو معلومة كان من الأفضل عدم معرفتها أو رسالة كان من الأجدر إهمالها؟

إن إطلاق وصف «ثورة المعلومات» على ما يحدث الآن من زيادة كمية من المعلومات ألتي تبثها ما يسمى بوسائل الإعلام، أو ما يسمى بأدوات التواصل الاجتماع، لا يعبر عن حقيقة ما يحدث. إذ أن ما يحدث لا يزيد في الحقيقة عن ثرثرة لا نفع فيها، أو عن محاولات لخلق رغبات جديدة كان حالنا أفضل بدونها.

مفكر اقتصادي مصري

 

Email