الموروث الثقافي والديني وتحدّيات توظيفه

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدعوة التي تطالب بالعودة إلى الموروث الثقافي الأصيل وتوظيفه في مختلف جوانب الحياة والدعوة إلى توجيهه لاستفادة النشء من خلال إدراجه في المناهج هي في الواقع دعوة تحتاج إلى تمحيص ودراسة علمية جادة ومعمّقة.

فمنذ حوالي أكثر من عقد من الزمان ظهرت دعوات مماثلة ولكن تحمل في طياتها خطراً محدقاً بالأمة العربية والإسلامية. فهدف تلك الدعوات لم يكن مخلصاً بل كان يهدف إلى تحقيق أهداف إيديولوجية وسياسية خبيثة تحت غطاء الدين والموروث الثقافي والأخلاقي والديني.

فقد ظهرت تيارات فكرية وتنظيمات سرية سياسية ودينية مستغلة تلك الدعوة واستطاعت تلك التنظيمات أن تكسب لها بسرعة قاعدة شبابية في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وحتى الأوروبية. كما استطاعت تلك التيارات التكفيرية أن تبث سمومها في المجتمعات الإسلامية وأن تغسل أدمغة الشباب على وجه التحديد وتوجههم نحو تنفيذ أجندتها السياسية، وهكذا أصبح الشباب عنصرها ووقودها.

منذ أن بدأت المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية تعج في منطقة الخليج انعكست آثارها على النشء من خلال المتغيرات في سلوكهم وقيمهم الجديدة. وظهرت دعوة حقيقية تطالب بحماية النشء من خلال العودة إلى الموروث الديني والثقافي للمنطقة.

ويبدو أن تلك الدعوة قد استغلت بشكل كبير من قبل بعض التيارات والتنظيمات السياسية المحظورة التي سعت جاهدة لاجتذاب الشباب وتجنيدهم في صفوف التطرف والإرهاب.

أما عوامل الجذب فبعضها ادعى استناده إلى الموروث الثقافي والبعض الآخر الموروث الديني وهو ما ساهم في انتشار تلك الأفكار وشيوعها حتى أصبح لها قاعدة جماهيرية واتباع في الكثير من البلدان الإسلامية. فمثلاً داعش تدّعي أنها تستند إلى الموروث الديني.

وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن تلك التيارات المتطرفة هي في واقع الأمر صناعة محلية وليست أجنبية أو نتاج أفكار مستوردة، إلا أنه لا يخفى على أحد أن لتلك التيارات والأفكار ارتباطاً بجهات خارجية تمولها وترسم لها العديد من أهدافها.

وبلا شك فإن الكثير من الشباب جذبتهم الأفكار التي روّجت لقدرة تلك التيارات على خلق مجتمع يحاكي ذلك الذي ساد في عهد الرسالة والخلفاء الراشدين وكانت تلك الأفكار هي الدافع الأول وراء انجذاب الشباب لتلك التيارات.

وعلى الرغم من أن التاريخ لا يكرر نفسه، فتلك أمة قد خلت، ومن المستحيل تكرارها، إلا أن تلك الفرق المتطرفة استطاعت أن تلعب بعواطف الشباب وتجلب لهم أدلة وبراهين من الموروث الإسلامي اقتبست ببراعة لتناسب عقول الشباب والتنشئة الحديثة التي تربوا عليها.

ولم يحدث ذلك كله في غفلة من القائمين على العملية التعليمية آنذاك ولا بغفلة عن المناهج الدراسية، بل إن بعضاً من ذلك التعديل قد أدخل على المناهج الدراسية عن قصد. فقد رأت التيارات المتطرفة في ذلك فرصة لا تعوض لحشد المزيد من الاتباع وخاصة بين صفوف الشباب.

هذا الغلو والتطرّف أنتج جيلاً مترجرجاً لا ينتسب إلى الحاضر ولا يفكر في المستقبل، في الوقت الذي تبدو فيه مجتمعاتنا بحاجة ماسة للتفكير في الحاضر واستقراء المستقبل. إن الخليج بحاجة إلى جيل يقرأ الماضي ويفكر في المستقبل، كما أنه بحاجة إلى جيل ينظر إلى الموروث الثقافي بنظرة مغايرة من خلال مرآة جديدة للخروج بنظرية جديدة للتعايش مع البشر.

فمجتمعات الإمارات والخليج أصبحت اليوم مجتمعات عالمية تعيش بها مئات الجنسيات والأعراق، ومجتمعات الخليج المحافظة لم تعد كذلك. فهناك العديد من التيارات الفكرية التي أصبحت تجوب في فضاء هذه المجتمعات بعضها يدعي الركون إلى الماضي وتراثه الأصيل وقيمه الجميلة، وبعضه يتسربل بغطاء الدين أملاً في كسب الأتباع والشعبية الجماهيرية.

بل إن بعضاً من هذه التيارات أصبحت خطراً محدقاً بالشباب نظراً لنشرها أفكاراً متطرفة وراديكالية تمثل خطراً على العالم برمته. وبالتالي فلا يوجد تيار واحد يمكننا القول إنه تيار يمثل الماضي الأصيل بكل تجلّياته وقيمه،ولكن توجد العديد من التيارات المتضاربة والتي يمثل بعضها خطراً محدقاً على الشباب.

إن نظرة واقعية ومقارنة حقيقية بين تراثنا الأصيل وما يحمله من معاني التكاتف والتراحم والتسامح وتقبل الآخر وبين تلك الأفكار الدخيلة علينا والتي تدعي بأنها تمثل تراثنا الثقافي والديني وبين ما تحمله من نبذ للآخر وتعصب وغلو وتطرف يتبين لنا أننا أمام تحد حضاري كبير.

فعلى مثقفي وعلماء الأمة والقائمين على العملية التعليمية واجب كبير ألا وهو فضح حقيقة تلك التيارات وتبيان الأمور بجلاء حتى يكون شبابنا على علم ومعرفة بكل ما هو مبيت لها، وبأن ليس كل ما يعرض عليهم من أفكار تمثل تراثنا وديننا الإسلامي الحنيف.

 

 

Email