رحيل رفعت السعيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحل عن عالمنا الدكتور رفعت السعيد، وربما فوجئ الكثيرون بالإجماع الرسمي وغير الرسمي على قيمة الرجل ومكانته في الحياة السياسية والثقافية والفكرية، حيث التقى في مشهد عزائه كافة أطياف النخب السياسية والفكرية من اليسار واليسار القومي والليبراليين وغيرهم.

وكذلك مختلف الأجيال من هذه النخبة ودلالة ذلك هي بالتأكيد الاتفاق حول أهمية الدور الذي لعبه الراحل الكبير في الحقل السياسي والفكري طيلة العقود المنصرمة، لقد درجنا نحن المصريين على الاعتراف المتأخر بمكانة وأهمية من يرحل عن عالمنا وكأنه تنقصنا الجرأة والشجاعة على الاعتراف بمكانة الأشخاص والرموز الوطنية أثناء حياتهم.

أو أننا نبخل عليهم ببضع كلمات أثناء حياتهم قد تمنحهم بعض الأمل في الحياة أو تحثهم على التمسك بما بقي منها.

جمع الدكتور رفعت السعيد خبرات نادرة في السياسة العملية والنظرية والتاريخ والثقافة، وجمع في وقت واحد بين وجوه متعددة، ولكنها لم تكن متضاربة بل كانت جميعها تسترشد بنموذج أيديولوجي وفكري وسياسي قابل للجدل والاختلاف، ولكنه يحمل على الاحترام والتقدير، فهو المناضل الاشتراكي في إطار الظروف التاريخية الوطنية والعالمية التي رسمت صورة ذلك النضال.

كما أنه المثقف الذي حاول أن يكون عضوياً بتعبير «غرامشي» وموسوعياً بحكم تنقله بين حقول التاريخ والثقافة والفكر والسياسة ووجه الإنسان الكوني والأممي الذي يضع هموم وطنه في التحرر الوطني والاجتماعي في إطار أشمل وممتد إقليمياً ودولياً، وما يترتب على ذلك من أعباء ومواءمات والتزامات.

انتقل الدكتور رفعت السعيد في حياته النضالية الحافلة من الدعوة للتغيير الثوري إلى الدعوة للإصلاح والتنوير، واستند هذا الانتقال إلى مرجعيته الأيديولوجية والفكرية،

ومرت حياة رفعت السعيد بمراحل ومحطات متميزة ومتغيرة وفق الظروف ووفق رؤيته السياسية، ففي مرحلة السادات وبداية الانفتاح الاقتصادي وبدء تحلل النظام من التزاماته تجاه حقوق الكادحين والبسطاء أعطى الأولوية للدفاع عن العدالة الاجتماعية ودعم بقوة انتفاضة الخبز في عام 1977 .

ومن شاركوا فيها من المناضلين اليساريين وغيرهم، سواء من كان يعرفهم أو من لا يعرفهم فجميعهم سواء، أكانوا أعضاء في الحزب الذي شارك في قيادته أو ينتمون إلى جماعات يسارية أخرى، ولم يخلط رفعت السعيد بين موقفه من النظام وإدارته وبين الدولة وركز انتقاداته وممارساته حول السياسات التي فتحت الباب للالتفاف حول حقول المواطنين المكتسبة.

كان يدرك مخاطر «التأسلم» كما كان يسمي أولئك الداعين إلى هذا الخلط على الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط، بل وبين المسلمين بعضهم البعض.

كما كان يدرك أن هذا الطريق أي هذا الخلط هو الوصفة السحرية لتفكيك الدولة الحديثة وهدم البنى المؤسسية والدستورية والقانونية التي تأسست عليها عبر ما يفوق القرنين من الإصلاح والنهضة والتنوير، هذا الخلط في تقديره كان هو طريق العودة إلى القبلية والعرقية والعشائرية والبنى التقليدية لما قبل الدولة الحديثة.

ولا شك أن هذا التحول في مسار السعيد السياسي والفكري من التغيير الثوري إلى الإصلاح ومساندة الدولة في مواجهة الإرهاب والدفاع عن الدولة المدنية، لا يقتصر عليه وحده، بل شمل العديد من رموز اليسار في العديد من الدول وتغير مفهوم اليسار ليتخذ مسالك جديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان والدولة المدنية ومكافحة الفقر ومناهضة العولمة والدفاع عن الأقليات.

وفي فرنسا انخرط العديد من رموز اليسار الفرنسي ويسار 1968 في البنى المؤسسية للدولة الفرنسية، خاصة بعد انتهاء الاستقطاب الأيديولوجي بين اليمين واليسار وظهور ما يسميه بعض الكتاب «الأيديولوجية الناعمة أو الرخوة» والتي تنحو نحو ملء هذا الفراغ وتروج قيم حقوق الإنسان والتضامن والكرامة الإنسانية.

يظل رفعت السعيد رغم رحيله أحد مصادر تكوين مختلف الأجيال من اليسار، وخاصة جيل 1972، فمن خلاله تعرفنا على تاريخ الحركة الشيوعية والوطنية وتعلمنا منه قيمة الالتزام والاجتهاد وتقبّل النقد البناء ورفض الدخول في المهاترات الشخصية وحملات التشويه.

 

Email