مسار جديد للقضية الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حفلت هبة الأقصى أو انتفاضة الأقصى التي استمرت زهاء الخمسة عشر يوماً من شهر يوليو الماضي، بالعديد من الدروس والعبر التي لا ينبغي أن تمر مرور الكرام على المتابعين والمراقبين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية.

وفي مقدمة من يهمه أمر هذه الدروس النخبة الفلسطينية الرسمية والشعبية، وإذا كانت معظم أو أغلب التحليلات للوضع الفلسطيني الراهن تشير إلى وجود مأزق عميق في المشروع الوطني الفلسطيني وأدواته ومسالكه، وضرورة تجديده، فإن استقراء هذه الدروس واستيعابها قد يفتح أفقاً جديداً نحو مرحلة جديدة ومسار جديد في تاريخ القضية الفلسطينية.

ينبغي تقييم حصاد هذه الانتفاضة أو هبة الأقصى، دون تهويل أو تهوين، وذلك يعني أن الوقوف عند القول بانتصار الفلسطينيين في المعركة ضد المحاولات الإسرائيلية للسيطرة على الأقصى برمزيته الدينية ومكانته الروحية، غير كافٍ؛ لأنه باختصار يكاد يكون نصف الحقيقة.

فالصحيح أن الفلسطينيين انتصروا في هذه الجولة، ولكن أيضاً أمامهم الكثير من الجولات والمعارك حتى يكسبوا قضيتهم الأساسية ألا وهي التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة بعاصمتها القدس الشرقية.

ذلك أن المحاولات الإسرائيلية لانتزاع السيطرة على الأقصى من الفلسطينيين وتغيير الوضع القائم لن تتوقف، بل ستستمر بصيغ وأشكال مختلفة حتى تستكمل حلقات السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية والأماكن المقدسة فيها.

ومن ثم فإن الاستعداد ينبغي أن يكون قائماً لمواجهة هذه المحاولات، ومن خلفها إرباك الاحتلال وسلطاته، لإجباره على التراجع وحمله على اليأس من إمكانية استمراره في السيطرة على مقدرات الفلسطينيين.

وذلك لن يتأتى إلا إذا استند هذا الإعداد والاستعداد على استيعاب الدروس المهمة، التي كشف عنها مسار هذه الانتفاضة، ودمجها في إطار رؤية جديدة لاستكشاف مسالك النضال ضد الاحتلال وإعادة هيكلة المشروع الوطني الفلسطيني.

أول هذه الدروس يتمثل في قدرة القضية الفلسطينية بفضل أبناء الشعب الفلسطيني على التجدد واستعادة مركزها في الصدارة والمشهد الدولي والإقليمي.

ثاني هذه الدروس هو حضور الشعب الفلسطيني بكل فئاته في المشهد الراهن وانتفاضة الأقصى وعودته مرة أخرى لصيغة الكفاح المدني السلمي الممتد، وهو الرد العملي والملائم لها ويكاد يكون الوحيد على صيغة أوسلو من ناحية والتي أرادت في المقام الأول عزل الشعب الفلسطيني بل وتغييبه عن المشهد، وحصر التعامل في نطاق ضيق يضم أجنحة النخبة الفلسطينية.

أما ثالث هذه الدروس فهو اعتماد الفلسطينيين على قدراتهم الذاتية المرافقة للعزم والتصميم والقدرة على حشد جماهير الفلسطينيين في كل الأماكن للتجمع والتظاهر والصلاة والاحتجاج ضد الإجراءات الإسرائيلية في الأقصى وهي الحشود التي شلت القوة الإسرائيلية وحيدتها وكسرت هيبتها، ففي مواجهة هذه الحشود الكبيرة تقف القوة عاجزة وتتوقف فاعليتها.

أما رابع هذه الدروس فيتمثل في مركزية المقاومة الشعبية وقدرتها المذهلة على التصدي للاحتلال والعنصرية والأهم من ذلك عدم قصر المقاومة الشعبية على استخدام السلاح، بل كل أساليب وقنوات الكفاح المدني والسلمي وهو الدرس الذي ينبغي استيعابه جيداً لأنه يمثل الطريق إلى رفع كلفة الاحتلال وفضح طبيعته العنصرية ولا أخلاقيته أمام العالم والرأي العام، بل وإرباكه وإفشال خططه في قمع الفلسطينيين وإخضاعهم.

وأخيراً وليس آخراً كشفت انتفاضة الأقصى الفارق النوعي المذهل بين التدين الإيديولوجي والمسيس لبعض الفئات الحزبية والتدين الشعبي والوطني، ذلك الفارق الذي يتمثل في استهداف الأول السلطة والسيطرة وفرض الوصاية على المواطنين واستهداف الثاني مصالح وتطلعات المواطنين وحاجاتهم الروحية والمعنوية والمادية.

حيث استثمرت الرموز الدينية والرمزية الدينية المتعلقة بالأقصى وحائط البراق في حشد الناس وحثهم على المواجهة مع سلطات الاحتلال، وأمدتهم بقوة خارقة إيمانية وروحية للصمود واستعادة الحقوق، ومن ثم فإن هذا النمط من التدين يمثل التحصينات الخلفية والأسس الهيكلية للصمود في مواجهة المحتل وحمله على التراجع أمام الإرادة الفلسطينية الشعبية.

رفع المحتشدون العلم الفلسطيني وتوارت الأعلام الفصائلية وحرص المحتشدون على إعلاء قيمة الانتماء الوطني لفلسطين، وليس الانتماء الإيديولوجي والحزبي، وحددوا بذلك مساراً جديداً لاستعادة الحقوق قوامه، الوطنية الفلسطينية وحضور الشعب في المشهد والمقاومة الشعبية.

وهذا الطريق وإن بدا طويلاً لكنه يمثل المخرج الممكن من الحالة الراهنة بشرط توفر الإطار الملائم من حيث القدرة على التنظيم الذاتي والقيادة الواعية وغير المغامرة وإحياء قيم المجتمع الفلسطيني في التكافل والتضامن الوطني وتقاسم الأعباء والمهمات، وجميعها قدرات كامنة في المخزون النضالي والتاريخي للشعب الفلسطيني.

*كاتب ومحلل سياسي مصري

Email