جاك شاهين والجهاد الفكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مفاهيم مغلوطة بشأن الجهاد في الغرب وعند المسلمين. فالجهاد له معان كبيرة وسامية وأعلاها مرتبة جهاد النفس والجهاد في تحقيق الرفاهية والأمن والاستقرار للشعوب. ويقسم الفقهاء الجهاد بنوعين جهاد الطلب وجهاد الدفع. فالأول هو غزو البلاد لإيصال الدعوة، والثاني جهاد الدفع هو الدفاع عن أرض المسلمين من الغزاة. وبما أن وصول الدعوة بوسائل متعددة في زمننا هذا عبر الإعلام والوسائط الإلكترونية المتنوعة، وبالدعوة المباشرة من قبل الجاليات الإسلامية المنتشرة في أصقاع العالم، فإن جهاد الطلب أصبح جزءاً من التاريخ.

وقد ذكرني هذا الموضوع وفاة الأميركي-العربي، الباحث والأستاذ الجامعي جاك شاهين في 7 يوليو الماضي. وقد ولد البروفيسور شاهين في ولاية بنسلفانيا الأميركية في 21 سبتمبر 1935 لأبوين عربيين مهاجرين من لبنان. ودرس في جامعات أميركية عدة حتى نال درجة الدكتوراه من جامعة ميزوري في العام 1969. وبعدها عمل أستاذاً في جامعة جنوب إيلينوي، كما شغل وظيفة أستاذ زائر في جامعة نيويورك.

وأفنى شاهين عمره في جهاد حقيقي ضد المؤسسات والتي عمدت على تشويه صورة الإنسان العربي. ولا شك فإن عمله عبر السنين كان من جهاد الدفع، وتأثيرات عمله الدؤوب لها الوقع الإيجابي على الأقل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية.

حيث شغل كمستشار لشؤون الشرق الأوسط في هيئات إعلامية كبرى كمحطة السي بي أس نيوز ومنظمات إعلامية أخرى.

وكان هم شاهين الأكبر هو سمعة العرب في الولايات المتحدة والذي يتعرض لتشويه حقيقي من قبل جماعات عدة، وخاصة الجماعات المؤيدة لإسرائيل بشكل مطلق والتي لا تنفك من استغلال سقطات العرب والمسلمين (وللأسف العديدة) لتبث سموم الكراهية ضدهم. وقطع شاهين الفيافي والقفار والسهول والوديان والقيعان والهضاب من شرق الولايات المتحدة وغربها ومن جنوبها إلى شمالها منافحاً عن العرب والمسلمين بالاعتماد بعض الأحيان على مصادره الشخصية لتمويل جهده المتميز.

وأتذكر إحدى محاضراته في جامعة ميتشغان في التسعينيات من القرن الماضي، بمناسبة يوم مارتن لوثر كينغ المدافع عن الحقوق المدنية الأشهر، وهو يوم عطلة رسمية، وتحدث فيه عن الحيف الذي لحق بسمعة العرب بسبب التشويهات المتعمدة لأسباب مختلفة.

وقد نسب هذا التشويه إلى ثلاثة عوامل رئيسة: أولها الجهل حيث إن الأميركان لا يعرفون الكثير عن العالم الخارجي. وبالتالي يسهل التدليس عليهم كما حصل ضد مجموعات أخرى من إثنيات وجنسيات كثيرة مثل الأفارقة، واليهود والبولنديين والإيرلنديين، والمكسيك والأسيويين، وخاصة اليابانيين والذين وضعوا في مراكز الاعتقال القسري أبان الحرب العالمية الثانية.

وعطفاً على العامل الأول، فإن العامل الثاني يتعلق بالتكاسل الذهني حيث لا يشغل المتلقي الأميركي باله بتقصي الحقيقة عما يسمعه ويراه من أخبار عن العرب. ويستكين الفرد الأميركي للصور النمطية والتي تغنيه عن بذل الجهد لتفهم واقع العرب وما يقع عليهم من ضيم أو تكالب من قوى طامعة أو حكومات جائرة. فالأنماط الجاهزة توفر بذل أي جهد على المتلقي من تفنيد الادعاءات.

أما العامل الثالث فكما يقول الأستاذ شاهين، وهو الأخطر، فهي إسرائيل. فالدعاية الصهيونية ضد العرب في الولايات المتحدة عبر وسائل الإعلام والسينما وحتى في الدراسات الأكاديمية يندى لها الجبين. وهذا العامل هو الأخطر من العاملين السابقين بسبب تعمد مطلقي التشويهات على هذه الدعايات المغرضة. والأخطر لكون كثير من هؤلاء متغلغلين في وسائل الإعلام الكبرى من محطات التلفزة والجرائد الكبرى واستوديوهات هوليوود.

ولم يأل الأستاذ شاهين جهداً في تعرية هوليوود ومساهمتها في هذا التشوية، وقد أفرد كتاباً كاملاً حول الموضوع بعنوان «العربي السيء في بكرة الفيلم: كيف تشوه هوليوود شعباً». وفيه يروي كيف أن تشخيص العربي في أفلام هوليوود على انه «قاتل متوحش، ومغتصب خسيس، ومتعصب دينياً، وغني بالنفط قليل الذكاء، ومسيء للنساء» ويقتبس العبارة من فيلم والذي يرددها كثير من العنصريين الأميركيين «أن كلهم [أي العرب] يبدون متشابهين لي».

ويرى شاهين في معرض مراجعته لكثير من أفلام هوليوود مدى تشابهها مع الأفلام المنتجة في المانيا النازية والتي تخصصت في تعديد مثالب اليهود وتعج بالنمطية المسيئة واللاسامية الفجة. وحتى في تصوير الملبس يرى أن الأفلام المنتجة في العهد النازي تصور اليهود ذو الأنف المعقوف متدثراً بمعطف اسود بشكل معاكس لبقية الممثلين في الفيلم. ويقابل هذا التصوير نفس الشخصية العربية وبأنفه المبالغ في تقوسه والشكل الدميم بعباءته السوداء وعقاله بشكل مخالف لبقية طاقم الممثلين.

ولا يمكن الاستهانة بهذه الصور النمطية والتي تطبعها هوليوود في ذهنية الأميركيين منذ نعومة أناملهم. فالشعب الأميركي مغرم بالأفلام ومشاهدة ما تنتجه هوليوود ويكاد يكون أحد اهم الطقوس الثقافية في المجتمع الأميركي. ويستشهد الكاتب بهنري كيسنجر والذي يحذر من «أننا في عصر يتعلم فيه أغلبية الناس من الأفلام … بدلاً من الكلمة المكتوبة» وهذا يضع مسؤولية خاصة على صنّاع السينما لا يمكن التنصل منها بعذر الفن الخلاق.

ومن نافل القول إن النشاط الفكري والأكاديمي لهذا الراحل الجليل يتعدى كثيراً مما ذكرنا هنا فهو رجل مفعم بالإنسانية ويتميز بروح فكهة وخفيفة لا تحمل الحقد أو الكراهية. انه مجاهد حقاً لإعلاء الحق ضد الباطل والحق في وجه القوة.

Email